إنه يوم كأي يوم آخر يمر بها...
كان الوقت نهارًا، ولكن الظلام يملأ أرجاء المنزل، حيث الطقس البارد والإضاءة الخافتة يوحيان بأنه الليل. أجواء المنزل تعبر عن حالة الحزن التي تعيشها "مريم"، مفروشات المنزل وديكوراته القديمة تزيد من كآبته. تهتم "مريم" كثيرًا بوضع صورتين لوالديها المتوفيين على أحد حوائط المنزل. إنها فتاة رقيقة وجميلة، لكن الحزن يسيطر على كل كيانها، كما يسيطر على المنزل بأكمله. ورغم أنها تعيش بمفردها، إلا أنها تسكن غرفة منعزلة تاركة بقية غرف المنزل.
لم تكن السعادة في حياتها سوى لحظات عابرة تقضيها بطريقتها... تقرأ، تكتب، تشاهد الأفلام القديمة، وأحيانًا تستمع إلى الأغاني التي غالبًا ما تزيد كلماتها أوجاع الفتاة وتعيد إليها ذكريات مؤلمة. وقليلًا ما يهفو قلبها للاستماع إلى الموسيقى الحالمة، فتغير نظرتها للحياة وتبعث فيها نفحة من الأمل لتتمايل على أنغامها، وتراقب جمال مقلتيها في مرآتها القديمة. كانت تضع المكياج، تمشط شعرها المنسدل على كتفيها، تراقب بعينيها ملامح جسدها المفعمة بالأنوثة والحيوية، خشية أن تُفاجأ بذبوله ذات يوم.
وما زالت تمشط شعرها... ثم توقفت لحظات عن الحركة تمامًا. بكت، فزاد بريق دموعها جمال عينيها، وتلألأت الدموع على وجنتيها الرقيقتين، وكأن قطرات ندى زانت أوراق زهرة في ربيع حزين.
لم تكن لتتحدث عن آلام وحدتها، حتى لنفسها، لكنها حاضرة في ملامحها، تُظهر ما تخفيه...
دق هاتفها المحمول...
أسرعت نحوه، تتأمل أن يأتيها خبر سعيد يغير حياتها. لكن المتصل كانت والدة "شمس"، إحدى صديقاتها الصغيرات، حيث كانت "مريم" دائمًا بمثابة الأخت الكبرى للكثير منهن.
أجابت، وجاء صوت السيدة باكيًا عبر الهاتف، محملًا بنبرة استغاثة...
أسرعت نحو المرآة، مسحت المكياج، وجففت دموعها جيدًا. فتحت خزانة ملابسها الممتلئة بالملابس السوداء والألوان القاتمة، واختارت ما سترتديه. فارتدت البنطال الفضفاض والبلوزة الطويلة، وحجبت شعرها بالحجاب، واحتشمت كما تفعل دومًا، ثم توجهت مسرعة إلى منزل صديقتها.
استقبلتها والدة الصديقة بلهفة شديدة، وسألتها عن أحوال ابنتها "شمس"، لكن وجه الأم كان يعبر عن كارثة. طلبت "مريم" أن تراها لتطمئن عليها، فأدخلتها الأم غرفتها. كانت "شمس" تجلس على فراشها، وآثار البكاء تبدو واضحة على وجهها، وكأن ملامحها قد ذبلت فجأة. اقتربت منها "مريم" واحتضنتها، تسألها عمّا بها.
انهارت "شمس" وبكت...
ظنت "مريم" أنها على خلاف مع خطيبها، ولكن بدا الأمر أكبر من مجرد خلاف... حاولت تهدئتها، وسألتها عما حدث، بينما الصغيرة لا تجيب. استفسرت بكل الطرق، وكانت الدموع هي الإجابة الوحيدة.
أدركت "مريم" أن شيئًا خطيرًا قد وقع، فبقيت بجوارها لساعات تحتضنها وتجفف دموعها بحنان أم تُهدئ طفلها الباكي. هدأت "شمس" قليلًا، وأخيرًا، انفكت عقدة لسانها، وليتها لم تفعل. فلقد أخبرتها بأنها لم تعد عذراء.
قالتها وانهارت مرة أخرى، بينما تجمدت "مريم" من شدة الصدمة، عاجزة عن النطق، تحاول استيعاب ما سمعته... راجعت كلمات الصديقة مرارًا في عقلها، تحاول استيعاب ما سمعت.
سألتها "مريم": كيف؟ ولماذا؟ ومتى؟ ومن هو ذاك الشخص؟ أهو خطيبك؟ لا... لا أظن! فهو إنسان على خلق، ولكن... ربما! .. كيف أخطأتِ خطأ كهذا؟
نظرت إليها "شمس"، ونفت عن خطيبها ارتكاب هذا الفعل، وأخبرتها بأنها وقعت ضحية لأحد الكاذبين، مدّعي الحب.
استمعت "مريم" لما تقوله، وعقلها يكاد يجن من التفكير: ما الذي ينقصك لتفعلي ذلك؟ لديكِ أسرة كريمة ورجل يحبك ويقدرك، فكيف؟
لم تستطع "مريم" النطق، فما زالت تحت تأثير الصدمة...
جاءت الأم لتكمل صدمتها... لم تكن تعرف ما حدث لابنتها، لكنها أدركته أخيرًا، ورغم انفعالها، قررت "مريم" تهدئة الموقف... فذكرت حلًّا من وجهة نظرها رأته سليماً: لا بد من إخبار الخطيب، وله أن يقبل أو يرفض! فهو يحبها وبالتأكيد سيسامحها...
فورًا اعترضت الأم: لا، لن يسامحها مهما كانت درجة حبه لها، فكرامته لن تسمح بذلك.
عمّ الصمت بينهن، كل منهن تنتظر أن تجد الأخرى حلًّا مناسبًا... ثم جاءت الأم بحل صادم، قالت إنه لا بد من مداواة الأمر لدى طبيب، ثم التعجيل بالزفاف.
نظرت إليها "مريم" بدهشة، تتساءل في قرارة نفسها: كيف لأم أن تفكر بهذه الطريقة؟
توَسلت والدة "شمس" إلى "مريم"، أن تتكتم الأمر وألا تخبر أحدًا.
"مريم": أعدكِ بذلك ولكن اقتراحكِ بالذهاب إلى طبيب لعلاج الأمر حل غير مناسب!
أجابت والدة الصديقة: إن ابنتي صغيرة، ولا تعي شيئًا مما حدث، فيجب مسامحتها ومعالجة الأمر سرًّا... وعلاج فقدان العذرية أصبح سهلًا فهو يباع على هيئة "مستحضرات صينية" في بعض الأماكن!
استمعت "مريم" إلى ما تقوله السيدة في صمت وذهول، حتى جاءت صدمة أخرى، جعلتها تشعر وكأنها تحيا في عالم عجيب.
خرجت "مريم" من منزل صديقتها وكانت تسير شاردة، تحدث نفسها، تحاول استيعاب ما يحدث.
كيف لأم صالحة أن تسامح ابنتها على خطأ كهذا؟ كيف لأم أن تسقي ابنتها الخيانة؟ وكيف تخون رجلاً صالحًا قد ائتمنها؟!
تمشي "مريم" والدموع تتساقط من عينيها، حتى استقرت على أحد المقاعد بالقرب من النيل... زاغت عيناها في جريان النهر، كأنها تبحث عن فهم مفقود، أو تسأل عن أخلاق غائبة.. وما زالت كلمات الأم تتردد على مسامعها: أن ابنتها صغيرة، وأن الأمر يمكن علاجه بسهولة وكأنه مجرد ألم في المعدة أو ارتفاع في درجة الحرارة، يُعالج بقرص من الدواء... كـ"مستحضرات صينية بسعر زهيد".