هناك لحظات في الحياة تتسلل فيها الوحدة إلى أعماقك، ليس لأنها تفرض عزلة، ولكن لأنك تجد نفسك غريبًا حتى وأنت محاط بالبشر. تشعر أنك تنتمي لعالم أعمق مما يراه الآخرون. تحاول أن تصف ما بداخلك، أن تُسقط الكلمات على الورق أو أن تُطلقها في هواء الحديث، فتجد أن من حولك يلقون عليك نظرات الحيرة أو الابتسامات المشفقة. يظنون أنك تتفلسف، تتحدث في أمور لا طائل من ورائها، بينما أنت فقط تحاول أن تكون مفهومًا.
كيف أشرح لهم أنني لا أتفلسف؟ أنني فقط أبحث عن لغة تُترجم بها روحي، أن ما أتكلم عنه ليس غريبًا ولا بعيدًا عن واقعهم؟ كل ما في الأمر أنني أرى هذا الواقع بنظرة أخرى، زاوية ربما لم تُفتح لهم بعد. أرى الإنسان ليس فقط جسدًا يعمل ويتحرك ويستهلك، بل كيانًا مُعقدًا من روحٍ وجسد، يتشابك فيه العمق مع البساطة، الحزن مع الفرح، والبحث مع الوصول.
أحيانًا أشعر أنني لا أحتاج أن أتكلم، بل أحتاج أن يفهمني أحد. أن ينظر في عيني، دون أن أنطق بكلمة، ويستوعب هذا الألم الذي يعتصر قلبي. هل جرّبت يومًا أن تشعر بأن لديك الكثير لتقوله، لكن كلما قلت شيئًا، وجدته يتبخر قبل أن يصل إلى عقل الآخر؟ أن كلماتك تتلاشى كأنها لم تكن، أو أنها تُفسر بطرق تُبعدها تمامًا عن حقيقتها؟
لا أبحث عن إجابات سريعة، ولا حلول تُلقى عليّ كعبارات محفوظة عن الصبر أو قوة الإيمان. أنا مؤمنة بكل ذلك، ولكني أحتاج أن أُسمع. أن يشعر أحدهم بثقل قلبي دون أن يحاول إلقاء ثقل آخر عليه، كأن يُخبرني أن الحياة أصعب مما أتصور، أو أن مشكلاتي بسيطة مقارنة بمشكلات الآخرين.
ليس الألم مقارنة. الألم شخصي جدًا. هو زائر يقتحم أعماقك دون استئذان، يجلس في أعمق زواياك، يُشعل نيران الأسئلة التي لا تنطفئ بسهولة. أحيانًا يكون الألم مجرد شعور بالضياع، بأنك لا تنتمي لمكانك الحالي، ولا للناس الذين تتحدث معهم. تشعر أن روحك تبحث عن رفيقة أخرى، تُماثلها في الشفافية والعُمق، في القدرة على رؤية ما وراء الظاهر، واستشعار ما بين السطور.
لكن، كيف تبحث عن هذا الفهم في عالم لا يُصغي؟ عالم يبدو فيه كل شيء سريعًا، حيث تُلقى عليك الحلول قبل أن تُنهي حديثك، وحيث يُنظر إلى الصمت كأنه عجز. العالم لا يترك مساحة للبحث عن الذات، بل يدفعك باستمرار للانشغال، للهروب من الأسئلة الكبيرة، من مواجهات الروح التي تُخيفنا جميعًا.
لكني أرفض الهروب. أرفض أن أكون مجرد صدى لما حولي، أرفض أن أعيش دون أن أفهم، دون أن أترك لروحي مساحة لتُعبّر عن نفسها. قد أكون غريبة في حديثي، لكن هذه الغرابة هي حقيقتي. قد يراني البعض متفلسفة، لكن الفلسفة أحيانًا ليست سوى محاولة لفهم ما لا يُفهم، لإيجاد المعنى وسط الفوضى.
لذا، حين يؤلمني قلبي، أعلم أنني أحتاج إلى أكثر من كلمات سطحية. أحتاج إلى عين تفهم، إلى قلب يسمع دون أن يُقاطع، إلى لحظة صادقة أستطيع فيها أن أكون أنا، بكل تناقضاتي وعمقي. وإن لم أجد هذا الفهم في الآخرين، سأجده في روحي، في لحظة صفاءٍ مع نفسي، حيث الكلمات لا تُقال، لكنها تُفهم.