أحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ

ذات
المؤلف ذات
تاريخ النشر
آخر تحديث
أحياء ولكن لا تشعرون

في أوقات الفراق، نشعر بحزن يكاد يقضي علينا. نتوسل أي شيء ليواسينا، حتى وإن كانت نغمات الموسيقى الحزينة. ها هي المسكينة تبكي لغياب زوجها الحبيب ومؤنس قلبها، وعلى طريقتها تعزّي نفسها.

كانت في فراشها تستمع إلى الموسيقى الحزينة، وبدأت تغفو رويدًا رويدًا، والدموع تملأ عينيها. راح صوت الموسيقى ينخفض شيئًا فشيئًا حتى اختفى تمامًا. تقدم حبيبها نحوها وجلس بجوارها. فتحت عينيها ونظرت إليه بابتسامة حزينة، مليئة بالعتاب، تلومه فيها على بعده عنها.

"تعلمين أنني لا أتحمل تلك النظرة، وتعلمين أيضًا كم أحبك."

ولماذا ابتعدت عني؟

"إنه قدري."

اشتقت لأمانٍ كان معك، اشتقت لغضبك، لعفوك عني حين أخطئ، اشتقت لصوتك، لقلبك المليء بالحنان... اشتقت إليك!

"أنا هنا الآن."

أكرهك حين تتخلى عني، وقد فعلتَ.

"أعرف كم تحبينني، وأعرف أنك ستسامحينني."

لا... لن أسامحك.

"أنا هنا الآن، فسامحيني، ودعينا ننسى ما حدث."

ستتركني ثانية؟

"لا، بل ستكونين في صحبتي، سوف آخذك معي، فرحلتي طويلة، وهي إلى أجمل مكان."

حقًا؟ أهي في أجمل مكان؟

"نعم، وسوف ترين بنفسك."

حسنًا، سأسرع بتحضير ملابسي وأغراضي.

"لا، لن تحتاجي إلى أي شيء من هنا، فهناك أجمل الأشياء."

همّت أن تقوم من مكانها، وهي تسأله عن اسم هذا المكان الرائع. نظرت إليه تنتظر الإجابة، ولكنها لم تجده بجانبها. بحثت عنه حولها، ولكن دون جدوى. اكتشفت أنه مجرد حلم غفَتْ فرأته! راحت تبكي، وبدأ صوت الموسيقى بجانبها يعود ليعلو كما كان.

دخل صغيرها ذو الخمس سنوات، وكما اعتاد عند دخوله الغرفة، تأمل صورة والده الشهيد المعلقة على الحائط. كان دائمًا يتأملها في صمت، وكأنها نافذته الوحيدة إلى عالم أبيه الذي لا يعرفه.

الصغير: "أرأيتِ أبي في منامك؟"

فهزّت رأسها بنعم، لكن قلبها كان يئن. كانت تحاول أن تتمالك نفسها أمامه.

الصغير: "وماذا قال لكِ هذه المرة؟"

لم تُجبه، فقط ضمّته إلى صدرها بشدة ليكون قريبًا من قلبها، وصمتت نهائيًا. ظل الصغير يراقبها، كانت تتنفس بثقل، وكأن الكلمات تخرج منها بصعوبة.

الصغير: "أمي، هل أنتِ بخير؟"

رفعت رأسها، نظرت إليه بعينين مليئتين بالدموع، ولم تستطع الإجابة. فكرت للحظة، ثم قالت بصوت منخفض يكاد يختفي مع أنين قلبها:

"لقد وعدته أنني سأكون قوية من أجلك."

الصغير: "أليس هناك طريقة لإحضاره؟"

هزّت رأسها بأسف، لكنها ابتسمت له رغم كل شيء، ابتسامة حزينة، لعلها تحاول أن تطمئنه بقدر ما يمكنها.

ثم، في لحظة شردت، وفي شرودها شعرت بشيء غريب. كان كأنها تخرج من جسدها وتسبح في عالم آخر. لا عتمة، لا شحوب، فقط نور، وكان صوت زوجها يهمس في أذنيها، فتشتاق إليه أكثر.

"أنا هنا الآن، وأنا معكِ. لا تخافي."

وبينما هي في هذا العالم، كان زوجها يبتسم، وكأن الحياة عادت إلى وجهه مجددًا. همس في أذنها:

"لقد أتيتِ إلى مكان رائع، لم يكن بوسعك أن تريه. المكان الذي لا ألم فيه، ولا فراق، المكان الذي تنتظرنا فيه السعادة الحقيقية."

ابتسمت له، وقالت:

"هل سنكون معًا إلى الأبد؟"

"نعم، لأننا لن نفترق، وسوف تلتقين بي يومًا ما في هذا المكان."

لكن الحقيقة التي كانت تواجهها كانت صادمة. فهي لا تزال مستيقظة. كان ذلك مجرد حلمٌ جميل، ومشاهد سريعة مرّت مرور الكرام. وفي يقظتها لم تجد سوى الهواء البارد والحزن. أدركت في تلك اللحظة أن حلمها كان الأمل الوحيد الذي تتمسك به، لكنها في الواقع هي وحيدة تمامًا.

"أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ."

تعليقات

عدد التعليقات : 0