في يوم محاكمة المعزول

ذات
المؤلف ذات
تاريخ النشر
آخر تحديث

لا تنقطع دموع عينيها، لا يهدأ قلبها، ولا يُغمض لها جفن.
وعزاؤها الوحيد هو إيمانها بالله والرضا بقضائه. إنها والدة الشهيد، تداوم على زيارة قبر فقيدها الشاب، تحدّثه، تروي له عن أحداث يومها، وتشكو إليه حزنها لفراقه. يستمع إليها، فبجواره تنعم بهدوء روحي وسلام داخلي، حين يُربّت بيده على كتفها ليخفف عنها آلامها. لكن يد الله ورحمته تتولاها.

أمام التلفاز

عادت إلى منزلها وجلست أمام التلفاز على غير عادتها، وكان يومًا من أيام محاكمة المعزول. في كل مرة تُذاع فيها المحاكمة، ترفض مشاهدتها، ربما بسبب يأسها من عودة الحق، أو اقتناعها بأن لا شيء يهم بعد فقدانها لوليدها. لكنها تغاضت عن كل الأسباب وقررت أن تتابع هذه المرة. لم يعجبها ما شاهدته، فقد كان سلوك المتهم وحديثه مستنكرًا لشخص القاضي، وكان ذلك غير لائق بقدسية القضاء.

أمام مبنى المحكمة

دفعها حماسها لتكون ضمن الحاضرين في إحدى جلسات المحاكمة، لكنها مُنعت من الدخول. كان حضور الجلسة مقتصرًا على المحامين المصرح لهم، لكن بعد توسلاتها للضباط المكلفين بحراسة المبنى، وإخبارهم بأنها والدة أحد الضباط الشهداء، وافقوا على إدخالها سرًا.

داخل قاعة الجلسات

التفت إليها القاضي وسألها:
القاضي: هل أنتِ إحدى المحاميات المصرح لهن بحضور الجلسة؟
السيدة: لا، أنا والدة شهيد.
القاضي: كل الاحترام لكِ، سيدتي، لكن هل معكِ تصريح بدخول القاعة؟
السيدة: هل هناك تصريح لدخول محاكمة هذا، وأشارت إليه بسبّابتها، أكثر من كوني والدة شهيد؟
القاضي: نعم، سيدتي، لا بد أن يكون معكِ تصريح لحضور الجلسة. والآن، اسمحي لي باستكمال عملي، تفضلي بالخروج.
السيدة: أريد أن أبقى.

فتعطف القاضي عليها وسمح لها بالجلوس.

داخل قفص المعزول

دخلت السيدة إلى قفص المتهم. كان الجميع ينظر إليها بتعجب، لكن عينيها كانتا ثابتتين عليه. نظرت في عينيه وتأملتهما، وبنفس الثبات أدمعت.

وبنفس الثبات تحدثت:
السيدة: أنت مجرم، قاتل.
المعزول: أنا لم أقتل أحدًا.
السيدة: بل فعلت، أنت أشبه بنيرون.
المعزول: نيرون قتل الخونة، وهم من تدعونهم شهداء.
السيدة: هل تكفرهم؟
المعزول: نعم، فهم أعداء الشرعية.
السيدة: عن أي شرعية تتحدث؟
المعزول: عن شرعيتي كحاكم لمصر.
السيدة: ومن منحك إياها؟
المعزول: الصندوق.
السيدة: وإذا كان الصندوق قد منحك الشرعية، فالشعب أيضًا هو من سحبها منك. فلماذا تقتل إذن؟
المعزول: إنهم خونة.
السيدة: إنهم الشعب.

ثم بدأت السيدة تخاطبه مباشرة بمرارة، متهمةً إياه بالمسؤولية عن الألم الذي يعانيه الوطن بأسره.

عند قبر الشهيد

غابت السيدة عن الأنظار بعد تلك اللحظات التي لا تُنسى في قاعة المحكمة، لكنها لم تغادر قلب التاريخ. كانت تتنقل بين الحشود بصمت، وحين تعود إلى بيتها، لا تجد سكينة، بل المزيد من الأسئلة التي لا إجابة لها. في كل زاوية من منزلها، تلمح صورة ابنها الشهيد، وفي كل ركن، تشعر بأن قلبها لا يزال ينبض بحب لم ولن يموت.

وصلت إلى قبره في المساء، وهي تمسك بالورود البيضاء التي كانت تعتني بها كل يوم. وضعتها على القبر، ونظرت إلى السماء، وكان ضوء القمر يغمر المكان. تمنت لو أن الكلمات التي قالتها في المحكمة قد وصل صداها إلى كل ضمير حي، ولو أن الحقيقة كانت تُسمع من كل الأركان. ولكن في قلبها، كانت تعلم أن تلك المحاكمة ليست مجرد قضية قانونية، بل هي صراع بين الحق والباطل، بين من يعيشون من أجل كرامة الوطن وآخرين يسعون للسلطة على حساب الأرواح.

وفي تلك اللحظة، شعرت بشيء من السلام الداخلي، كأن روح ابنها، الذي اختار أن يكون شهيدًا من أجل وطنه، قد وافق على رسالتها. كانت عيناها تلمعان بالدموع، لكنها دموع من نوع آخر؛ دموع الشجاعة، دموع الإيمان بأن الحق سيعود مهما طال الزمن.

وفي النهاية، أدركت أن المحاكمة الحقيقية ليست في قاعة المحكمة، بل في قلب كل شخص يعيش من أجل وطنه، وفي كل شهيد ترك بصمة في التاريخ، وفي كل أم حملت آلام فراق من أحبت لكنها لم تنكسر. وفي قلب السيدة، كانت العدالة قد تحققت بالفعل، والحق سيظل يضيء الطريق مهما كان الظلام كثيفًا.

من كتاب 📖 صيني ب 80 جنية

تعليقات

عدد التعليقات : 0