لم اُخلق لأموت

ذات
المؤلف ذات
تاريخ النشر
آخر تحديث

لم تُخلق الحياة عبثًا، ولم تكن الروح نفخة عابرة في مهب الفناء. حين خطّتني يد الخالق، لم يكن القصد أن أنطفئ كجمرة على أطراف الليل، ولا أن أكون عابرًا تُطوى صفحته دون أثر. وُلدتُ ومعي رسالة، وإن لم أفهمها بعد، وإن ضللتُ الطريق إليها مرارًا، فإنها هناك، تتنفس في أعماقي، تناديني بصوت لا يسمعه غيري.

لم أُخلق لأكون ظلًّا يبهت مع الضوء، ولا صفحة بيضاء تُطوى قبل أن يُكتب عليها شيء. لم أُخلق لأعيش على الهامش، ولا لأكون رقماً في عدّاد البشر. هناك شيء في داخلي، نداءٌ يسري في دمي، معنى يتجلى في لحظات الصمت والتأمل.

لم أُخلق لأرحل وكأنني لم أكن، لم أُخلق لأكون مجرد ذكرى باهتة في ذاكرة الأيام. في كل نفس أستنشقه، في كل خطوة أخطوها، أدرك أنني جزء من شيء أكبر، من قصة لم تكتمل فصولها بعد، من معنى لم يُكشف لي بكامله، لكنه هناك، يسري في دمي كنبض لا يهدأ.

قد أتعثر، قد أتوه بين الطرقات، قد أشعر أحيانًا أنني بلا وجهة، بلا هدف واضح، لكنني أعلم في أعماقي أن هذا البحث نفسه جزء من الرحلة. فالأرواح لا تضيع، حتى إن شعرت بذلك، بل تأخذ وقتها في اكتشاف الطريق، في العثور على البصيرة وسط العتمة، في إدراك أن كل تجربة، كل لحظة، كل لقاء وفراق، كلها تحمل بين طياتها إشارات خفية تقودني نحو الحقيقة التي خُلقتُ من أجلها.

لم أُخلق لأُهزم، ولا لأستسلم لصوت الشك الذي يهمس أحيانًا أنني مجرد عابر، أنني لستُ سوى واحد بين الملايين. بل أُدرك الآن أن كل روح فريدة، وأن وجودي بحد ذاته دليل على أن لي دورًا يجب أن أؤديه، حتى وإن لم أدركه بالكامل بعد.

سأبحث عن هذا المعنى في كلماتي، في صدى صوتي، في الأثر الذي أتركه في قلوب من مررت بهم، في كل فكرة زرعتها في عقل أحدهم دون أن أدري، في كل شعور أشعلته في قلب شخص كاد أن ينطفئ. قد لا أكون نورًا يملأ السماء، لكنني شعلة صغيرة تقاوم الريح، تتأرجح أحيانًا لكنها لا تنطفئ.

وحتى آخر نَفَسٍ لي، سأظل أبحث عن هذا السبب، سأظل أحاول أن أكون أكثر من مجرد ذكرى عابرة، أكثر من ظل يتلاشى مع الوقت. سأكون أثرًا، ولو كان بسيطًا، سأكون بصمة لا تمحوها الأيام، سأكون صوتًا يبقى حتى حين يسود الصمت.

لأنني لم أُخلق لأموت.

لم أُخلق لأموت بلا أثر، بل لأحفر اسمي في ذاكرة الزمن، ولو بنقطة ضوء في عتمة، ولو بكلمة تمس قلبًا لمستُه يومًا دون أن أدري. وُلدتُ لأجد حقيقتي، لأترك بصمتي، لأكون شيئًا أكبر من مجرد جسد يذوب في التراب.

وحتى آخر نَفَسٍ لي، سأبحث عن السبب الذي لأجله كنتُ هنا.

تعليقات

عدد التعليقات : 0