في وضح النهار، كان الشارع مزدحمًا كعادته، والمارة يتدفقون كتيار لا ينقطع، كلٌّ منهم غارق في عالمه، لا يلتفت إلا لما يعنيه. كنت أسير بسرعة، بينما كان عقلي شاردًا في أمور حياتية أخرى. قد أكون أفكر فيما ينتظرني في المنزل أو في شيء نسيته في المحل الذي مررت به. كان الجو خانقًا رغم دفء الشمس الشتوية الهادئة، ولكن برودة الشغف كانت تملأ الأجواء وسط ضجيج العابرين.
فجأة، وسط الضوضاء، سمعت صوت بكاء مكبوت. لم يكن بكاءً عاديًا، بل كان يحمل شيئًا جعله يخترق الضجة ويتسلل إلى داخلي. التفتُّ، فرأيتها.
طفلة صغيرة، لا تتجاوز العشر سنوات، تبدو عليها علامات الفقر والحاجة، تقف بمفردها خلف إحدى السيارات المركونة عند زاوية الطريق. لم أستطع تجاهلها، فدفعني إحساسي الإنساني للتوجه نحوها والسؤال عن سبب بكائها. كانت تبكي بشدة حتى تورمت عيناها، ولم تتوقف عن النحيب. كان بإمكاني مواصلة طريقي، لكن شيئًا ما شدّني إليها. ربما لأن دموع الأطفال تملك قدرة غريبة على إيقاف الزمن، أو لأن شعورًا داخليًا أخبرني أن هذه الطفلة تحتاج إلى مساعدة.
اقتربت منها وسألتها بصوت هادئ:
— "ما بكِ يا صغيرتي؟ لماذا تبكين هكذا؟"
رفعت وجهها نحوي، واتسعت عيناها وكأنها وجدت أخيرًا من يستمع إليها، ثم قالت بصوت مرتعش:
— "لقد أخذ الرجل هاتفي بالأمس… وأمي ستعاقبني إن عدت بدونه!"
تجمدتُ للحظة. كلماتها فتحت أمامي سيناريوهات متعددة. سرقة؟ أم أن هناك أمرًا آخر؟ فسألتها مباشرة:
— "أيعني ذلك أنكِ لم تعودي إلى منزلك منذ الأمس؟ من الذي أخذ هاتفك؟ هل تعرفينه؟"
هزّت رأسها بسرعة وأجابت:
— "نعم، إنه جارنا! لكنني خائفة من العودة إلى المنزل بدونه، أمي ستغضب مني كثيرًا!"
حاولت تهدئتها، رغم أن قلبي بدأ ينبض بسرعة، ليس بسبب الخوف، وإنما بسبب إحساس غامض بدأ ينمو داخلي… إحساس بأن هناك أمرًا غير طبيعي.
— "حسنًا، عودي إلى والدتكِ وأخبريها، فهي من ستتصرف. من الأفضل أن تذهبي إلى المنزل بدلًا من البقاء في الشارع هكذا."
كان يمكن للموقف أن ينتهي عند هذا الحد، لكن فجأة، ودون أي مقدمات، وجدت نفسي أرفع صوتي بحدة وأقول:
— "ثم لماذا تتحدثين مع الغرباء؟ لا يجوز لكِ التحدث مع أي شخص في الشارع هكذا!"
لم أكن أتوقع ردّ فعلي هذا، وكأن شيئًا داخليًا استشعر الخطر وكان لا بد من أن يبعدني عن الموقف. نظرت إليّ الطفلة بارتباك، ثم استدارت ومضت مسرعة. تنفست بغضب وأنا أتابع خطواتها وأحاول إقناع نفسي بأنني فعلت الصواب.
لكن بعد لحظات قليلة، رأيت مشهدًا جعل الدم يتجمد في عروقي.
الطفلة اتجهت بخطوات ثابتة نحو رجلين كانا يقفان على مقربة منها، لكني لم أنتبه إلى وجودهما قبل ذلك، وكأنهما كانا ينتظرانها. مظهرهما كان مخيفًا، ملامحهما قاسية، وطريقة وقوفهما لا توحي بأنهما مجرد مارة عاديين. للحظة، كانت الطفلة تتجه نحوهما بثقة… لكنها استدارت بسرعة وكأنها تتأكد من أنني لا أراقبها، ثم واصلت السير باتجاههما.
عندها، وقفت مكاني متيبسة. ذلك الإحساس الغامض الذي راودني منذ البداية أصبح يقينًا.
— "كان فخًا."
تسارعت دقات قلبي، وشعرت بأن الدم يتدفق في عروقي بقوة، بينما كنت أحاول استيعاب السيناريو المحتمل. تلك الطفلة لم تكن ضحية… أو على الأقل، لم تكن الضحية التي تخيّلتها. بل كانت الطُعم. وقد اختارتني، أو ربما وقع عليَّ الدور بشكل عشوائي.
لو كنتُ اندفعت أكثر… لو كنتُ صدّقت القصة بالكامل… لو كنتُ سمحت للشفقة والخوف بالسيطرة عليّ، لربما وجدت نفسي في موقف أسوأ بكثير.
شعرت بأن قدميّ قد تجذرتا في الأرض، وكأنهما تمنعاني من الحركة، لكن عقلي كان يصرخ: "غادري المكان. حالًا!"
استدرت بسرعة، وتسارعت خطواتي حتى أصبحت أشبه بالركض. كنت أرغب في الوصول إلى المنزل، أو إلى أي مكان مألوف أشعر فيه بالأمان، لكن رغم أنني ابتعدت، لم يفارقني شعور الخوف.
وحين وصلت إلى البيت، أغلقت الباب خلفي بإحكام، ووقفت وسط الغرفة أتنفس بصعوبة. حاولت إقناع نفسي بأن ما حدث كان مجرد صدفة، لكن الحقيقة كانت واضحة أمامي: كنت على وشك الوقوع في فخ.
وفي تلك الليلة، بينما كنت مستلقية في سريري، ظل سؤال واحد يتردد في ذهني:
كم شخصًا قبلي وقع في الفخ نفسه؟ وكم شخصًا بعدي سيسقط؟ ولماذا يحدث ذلك في وضح النهار؟ وكيف يمكن أن تُستغل طفلة بريئة لتكون هي الطُعم؟
"الصياد ليس بالضرورة أن يكون في البحر، وأحيانًا يكون الطُعم على هيئة عيون دامعة في شارع مزدحم."
من سلسلة شبكة وسنارة