نحن لا نتحدث كثيرًا، وربما لا نتحدث أبدًا، ولكن بيننا خيط خفي لا يُرى بالعين، يُدعى بالمودة. تلك المودة التي لا تحتاج إلى الكلمات كي تزهر، ولا إلى اللقاءات كي تتجدد. هي كالنهر الصامت، يجري في العمق، يسقي جذور الروح دون أن يعلن عن نفسه، ويظل يَغذّي السكون بهدوءٍ تام.
في عالمٍ يعج بالضجيج، نحن ندرك أن القرب الحقيقي لا يُقاس بالكلمات المرسلة أو اللقاءات المتكررة، بل بالقدرة على أن نكون هناك حين يحتاج أحدنا الآخر. فحين تلتقي الأرواح، تصبح الكلمات مجرد زوائد لا تُشبع، أما التواصل الذي يحدث في الصمت فهو أعمق من أن يُحكى. في تلك اللحظات التي نتقاسم فيها الصمت، ندرك أن شيئًا أكبر من الكلمات يحدث بيننا. ربما لا نفهمه تمامًا، لكننا نشعر به، وهو يعبر عن ذاته بين السطور التي لا نحتاج لأن نكتبها.
ليس شرطًا أن أطرق بابك لأشعر بك، فأنت بابي الذي أطرق عليه في قلبي كلما ضاقت السبل. أنت الحضور الذي لا يحتاج إلى شهادة، لأنك في أعماقي حاضرٌ في كل لحظة، في كل فكرة، وفي كل قلب ينبض بالحاجة إليك دون أن يُفصح عنها. هذا الحضور هو ما يربطنا، هو الشيء الذي يجعلنا نعرف أن هناك دائمًا من هو قريب رغم المسافات، ومن هو موجود في غيابه كما لو كان معنا في كل لحظة.
إن احتجت إليّ، ستجدني هناك، كالشمس التي لا تُرى في قلب الليل، ولكن شعاعها يطمئن القلب دون أن يسألك عن الوقت. قد لا أكون في المكان الذي تتوقعه، ولكنني في المكان الذي يكمن فيه الحضور الحقيقي، بين ثنايا التوقيت والمشاعر الخفية. وإن احتجت إليك، سأبحث عنك في أعماق صمتك، لأجدك حيث يتراكم صمتك بحكمةٍ، تُشرق فيه كلماتنا التي لا نحتاج أن ننطق بها. في تلك اللحظات من السكون، نعرف أن كل شيء بيننا سيتضح دون أن نتكلم.
لا شيء بيننا سوى حضورٍ دائم، حضورٌ يشبه النجوم في السماء، قد لا تراه في وضح النهار، لكنه هناك، يرشدك في الظلام، يُرسل لك إشاراتٍ خفية ليُخبرك أنه لا يزال معك، حتى وإن غابت ظلاله عن الأفق. في تلك اللحظات التي يغشي فيها الليل كل شيء، يظل الضوء هناك، يحترق بصمت، يذكرك بأن الروح لا تحتاج إلى الكلمات لتعرف مكانها. هذا الضوء الذي لا يحتاج إلى شرح، هو ذاته الحضور الذي لا يتغير، الذي يعبر عن نفسه في الفعل، في الشعور، وفي لحظات الأمل التي لا تتوقف.
إننا لا نتحدث كثيرًا، وربما لا نتحدث أبدًا، لكن هذا الصمت بيننا ليس فاصلًا، بل هو لغة تُحدث أعمق تأثير.