الظل الثقيل

ذات
المؤلف ذات
تاريخ النشر
آخر تحديث

في منزل صغير تفوح منه رائحة الخبز الطازج كل صباح، كانت تعيش "سلمى" مع أسرتها. كانت سلمى فتاة هادئة، تحب الهدوء وتأمل في حياة بسيطة. لكن تحت هذا السقف، كان هناك ظل ثقيل يخيم على روحها: أختها الكبرى "نورا".

نورا لم تكن كأي أخت كبرى. كانت شخصيتها مليئة بالصدامات، تتحدث بقسوة وكأن الكلمات كانت سيوفًا تجرح وتترك أثراً لا يندمل. كل حركة أو كلمة من سلمى كانت تُقابل بنظرة مليئة بالحقد أو تعليق يطعن ثقتها بنفسها. لم تكن سلمى تفهم السبب. لماذا كل هذا العداء؟ ماذا فعلت لتستحق كل هذا الألم؟

مرت الأيام، والسنوات، ولم تكن سلمى ترد. كانت تصمت، ليس ضعفًا، بل دهشة وحيرة. كانت تسأل نفسها ليلاً، في غرفتها التي كانت ملاذها الوحيد: "لماذا؟ ما الذي يجعل قلبها مظلمًا هكذا تجاهي؟"

مع مرور الوقت، بدأت سلمى تنسحب. أدركت أن البعد قد يكون وسيلتها الوحيدة للنجاة. وانتقلت إلى مدينة أخرى عندما سنحت الفرصة. هناك، حاولت بناء حياتها بعيدًا عن الظلال. لكنها لم تستطع التخلص من الألم.

كان الغضب يتسلل إليها كضباب كثيف، يحاصرها من كل جانب. كانت تجد نفسها غارقة في دوامة من الأسئلة والذكريات: "عندما تركت البلدة كنت أختار الهروب، اخترت الحل الأسهل، لماذا لم أواجهها؟ لماذا لم أرد عليها يومًا؟ كيف سمحت لنفسي أن أُترك لأعوام تحت رحمة قسوتها؟"

كلما حاولت نسيان الماضي، كان الغضب يشتعل من جديد. وفي إحدى الليالي، وبينما كانت وحدها في غرفتها، انهارت تمامًا. دموعها انهمرت كالشلال، وصرخت بكل قوتها: "لماذا لم أرد؟ لماذا لم أحمي نفسي؟"

تذكرت تلك اللحظات التي كانت تقف فيها عاجزة أمام كلمات أختها الجارحة. تذكرت كيف كانت ترى الحقد في عينيها، وكيف كانت تتمنى لو صارحتها أو حتى دفعت عنها الأذى. لكن الماضي كان قد مر، والحاضر يحمل ثقلاً لم تعد تعرف كيف تتعامل معه.

قررت سلمى أن تواجه نفسها أخيرًا. أمسكت دفترها، وبدأت تكتب. كتبت كل ما شعرت به، كل لحظة ألم، كل غضب، كل كلمة كانت ترغب في قولها ولم تقلها. كانت الكلمات تتدفق كالسيل، وكأنها تطهر روحها من ثقل الأعوام الماضية.

نورا، كنت أبحث عن الإجابات طوال حياتي، ولم أجد. لكن الآن أدركت أن الإجابة ليست فيكِ، بل فيّ. سامحتكِ، ليس لأنك تستحقين، بل لأنني أريد الحرية. سامحتكِ لأني أريد أن أحيا دون هذا الغضب الذي يلتهم روحي. وسأتعلم أن أحمي نفسي، حتى لو تأخرت.

وضعت القلم، وشعرت بنبض قلبها يهدأ. لم يكن الغضب قد اختفى تمامًا، لكنه لم يعد يحكمها. أصبحت الآن تعرف أن الرحلة لم تكن عنها أو عن أختها فقط، بل عن علاقتها بنفسها.

في المدينة الجديدة، بدأت سلمى تبني حياة جديدة. بدأت تفتح قلبها للعلاقات الجديدة، وتتعلم كيف تزرع السلام الداخلي بعيدًا عن الماضي. وفي كل يوم، كانت تجد نفسها أكثر قوة وثقة، متحررة من قبضة الغضب التي كانت تأسرها. كانت تجلس في المقاهي الصغيرة، تحاور الغرباء بابتسامة، وكأنها كانت تكتشف العالم لأول مرة.

كل علاقة جديدة كانت تعلمها درسًا، وكل تجربة كانت تتيح لها الفرصة لتكون أقوى. ومع مرور الوقت، بدأت تدرك أن الرحلة لم تكن فقط عن المواجهة مع نورا، بل عن رحلة سلمى نحو ذاتها، نحو السلام الداخلي.

فكلّنا أتينا إلى حياة بعضنا البعض حاملين دروسًا؛ كل العلاقات التي نمر بها تحتوي على حكم خفية لكل واحدٍ منا.

تعليقات

عدد التعليقات : 0