الطفلة العجوز

ذات
المؤلف ذات
تاريخ النشر
آخر تحديث

محاولة جديدة، أستجمع فيها كل قوتي لأمرر اليوم بسلام، دون جدال يرهقني أو جرح جديد يضاف إلى جروحي القديمة. كنت على موعد مع السفر إلى محافظة قريبة لإنجاز مهمة ضرورية. وكعادتي قبل مغادرتي المنزل، مررت على والدتي، متوقعةً كلماتها المعتادة التي تجرحني دائمًا، كأنها طعنات متكررة. مع كل خطوة أبتعد بها عن باب غرفتي، شعرت أنني أقترب من الانهيار.

وكما توقعت، لم أسلم من كلماتها اللاذعة ولا من طعنات نظراتها التي تغمرني باشمئزاز مستمر. خرجت من المنزل مشوشة الذهن، أتعثر بخطواتي وكأنني أسير في نفق مظلم. رفعت عيني إلى السماء، أدعو الله أن يريحني من هذه الحياة التي أثقلتني.

عندما وصلت إلى محطة القطار، علمت أن القطار سيتأخر. لم يكن لدي خيار سوى استخدام المواصلات العادية لأصل في الوقت المحدد. وبينما كنت أنتظر، لفتت انتباهي طفلة تبدو في العاشرة من عمرها بجوار سيدة بدا أنها والدتها. كانت الطفلة ممتلئة قليلاً، ذات بشرة سمراء وملامح هادئة وجميلة. لم أكن لأنتبه لتفاصيلها لولا أنني سمعت صوت والدتها توبخها بطريقة مستفزة، تناديها بعبارة "سودة" مرارًا.

نظرت إلى الطفلة، ورأيت في عينيها صمتًا مهينًا، وكأن كلمات الأم سهام تخترق قلبها. شعرت أنني أرى نفسي فيها؛ طفلة حزينة، منكسرة. همست لنفسي: "لكِ الله يا مسكينة."

وصلت العربة أخيرًا، وصعدنا جميعًا. وكعادتي، بدأتُ في ترديد دعاء السفر، لكنني توقفتُ فجأة عند سؤالٍ تسلل إلى ذهني: كيف لي أن أدعو الله أن يحفظني ويردَّني سالمة، بينما أتضرع إليه ليتوفَّاني؟ وماذا لو استجاب لدعائي وأخذني؟ هل سيبكي أحدٌ لفراقي؟ هل هناك حبيبٌ سيحزن حتى يهلك؟ هل هناك صديقةٌ ستذكرني وتشتاق لابتسامتي؟

الحقيقةُ مؤلمة… لم يكن لي حبيب، أو صديق، ولا أحدَ سيفتقدني إن رحلت. لطالما كنتُ وحيدة، وحيدةً إلى الحدِّ الذي لا أعرف معه كيف أخرجُ من عزلتي، كيف أكونُ صداقات، كيف أسمحُ للحبِّ أن يدخل حياتي بعدما مضى من عمري ما مضى؟

"حمد لله ع السلامة يا مدام!" هكذا ناداني السائق عندما وصلنا، فأفقتُ من شرودي. مدام؟ هل يبدو عليَّ كِبَرُ السن؟ أم أنها مجردُ نداءٍ بإحترام معتاد ؟! ترجلتُ من العربة وأنا أشعر بنظراتٍ غريبةٍ تحيط بي. لماذا ينظرون إليَّ هكذا؟ هل هناك شئ ما في مظهري مثيرا للشفقة ؟ أم أنني، كما كانت تقول أمي دائمًا، لستُ جميلة؟ شعرتُ بالاختناق، فأوقفتُ سيارةَ أجرةٍ ورحلتُ مسرعة.

في السيارة، أخرجتُ مرآتي الصغيرة، نظرتُ إلى وجهي، رأيت عيونًا تبكي بلا دموع وملامح امرأة أنهكتها الحياة. تساءلت: هل وصلت لهذه الحالة بسبب كلمات أمي؟ هل كانت الكلمات وحدها كافية لتحطيم روحي؟! كنتُ أرى امرأةً أكبر من عمري بكثير، وجهًا مُتعبًا، مثقلًا بسنواتٍ من الحزن، ملامحَ أنهكتها الوحدة. كيف وصلتُ إلى هذه المرحلة؟ كيف ترسَّخت التعاسةُ في تفاصيل وجهي؟!

عدتُ إلى المنزل، فاستقبلتني أمي بطريقتها المعتادة؛ تأنيب، عتاب، اتهاماتٌ بالتقصير. لكنني لم أعد أبالي، فما عدتُ أملك طاقةً للاستماع إلى كلماتها التي سلبتني ثقتي بنفسي وسنواتٍ من عمري.

عدت إلى المنزل، وكما توقعت، كان استقبال أمي قاسيًا عادتها. فلم اعرها انتباهي، دخلت غرفتي وأغلقت الباب، باحثة عن مهرب. فتحت حاسوبي، ذلك العالم الافتراضي الفسيح، حيث لا أحد يعرفني ولا أحد يجرحني.

أنشأت حسابًا على فيسبوك باسم "الطفلة العجوز". بدا هذا الاسم، التعبير الأكثر صدقًا عن حالي؛ شابة صغيرة تحمل قلبًا أثقلته الشيخوخة. أرسلت طلبات صداقة إلى أشخاص غرباء، وسرعان ما استجابوا. وخلال أيام، أصبح لدي ألف صديق. شعرت بالسعادة للحظات، وكأنني أهرب إلى نزهة جماعية كل ليلة.

وفي إحدى الليالي ، بينما كنتُ أحاول النوم، دار حوار بيني وبين نفسي : هل نجحتُ في حياتي؟ نعم، أصبح لديَّ ألف صديق… لكن، هل هذا كافٍ؟ هل يسدُّ هذا النقصَ الهائلَ في حياتي؟ وماذا لو حدث لي مكروه؟ كيف سيعرفون؟ من منهم سيسأل عني إن اختفيتُ فجأة؟

رجعتُ إلى نقطةِ الصفر… لا أحدَ يعرفني حقًّا، لا أحدَ يعلم ملامحي أو صوتي، لا أحدَ سيمسك بيدي إن وقعت.

كان عليَّ أن أواجه الحياة، لا أن أختبئ خلف شاشة زجاجية . كنتُ بحاجةٍ إلى أن أتعلم كيف أرفض، كيف أوافق، كيف أقول "لا" أو "نعم" دون خوف. كنتُ بحاجةٍ إلى أن أجد نفسي وسطَ الناس، لا في عزلةٍ إلكترونية.

قررتُ أن أبدأ من جديد… أن أخرج، أن أعمل، أن أجرِّب، أن أفشل وأتعلَّم. كان لا بد أن أحارب مخاوفي، أن أواجه العالم، أن أستعيد ثقتي بنفسي.

نعم، كنتُ "الطفلة العجوز"، لكنني قررتُ أن أعيد الطفولة إلى قلبي، وأن أعطي الحياةَ فرصةً أخرى، العالم الحقيقي ينتظرني. قد تكون الرحلة شاقة، لكنني سأحاول. سأحارب خوفي، وسأثبت لنفسي أنني أستحق السعادة وأن الحياة، رغم قسوتها، تستحق أن تُعاش.

من كتاب 📖 صيني ب 80 جنية

تعليقات

عدد التعليقات : 1
  • العمدة محمود طنطاوى26 نوفمبر 2024 في 8:29 ص

    قصة جميله فيها اكثر من حكمه في التربيه تسلسل جميل للاحداث.. اتقان في اللغه.. سلمت يداكي

    إضافة ردحذف التعليق

    » ردود هذا التعليق