في إحدى الزوايا المنسية من هذه الحياة، حيث تُسقط الأيام عبء الذكريات على قلوبنا، كانت تجلس السيدة العجوز في مكانها المخصص على الأريكة القديمة، تتأمل في وجه الزمن الذي غادرها قبل أن تغادره. أصابعها التي اهترأت مع مرور السنين كانت تتلاعب بخيوط فارغة في يدها، وكأنها تبحث عن شيء لا وجود له في هذه اللحظة. كان صوتها يتردد في الأرجاء، تعود بكلماتها إلى فترة كانت فيها الحياة أسهل، والأيام أبطأ.
كان مرض ألزهايمر قد اجتاح عقلها بالكامل، ولكن هذا المرض - الذي ينزع الذاكرة ويترك الإنسان عائداً إلى أطياف الماضي - كان بالنسبة لها، وكأنما هو بمثابة درب للهروب من الثقل الذي تحمله حياتها الآن. تلك الذاكرة التي فَقدت تفصيلات الواقع، لكنها تمسكت بتفاصيل الحلم والطفولة والذكريات البسيطة التي جعلت حياتها مليئة باللحظات السعيدة على الرغم من الظلال التي كانت تحيط بها.
حينما تحدثت عن أيام طفولتها، كأنما لسانها كان يخرج من بين شفتيها ليعزف لحنًا هادئًا عن أيامها في "التربية النساوية"، المدرسة التي كانت بالنسبة لها أكثر من مجرد مكان للتعليم، كانت بمثابة الحلم الذي لم يتحقق بالنسبة لها، وكانت تراه في كل مرة تذكر فيه تفاصيله.
لم يكن هناك مكان لتاريخها الحافل في حديثها، أو لأفراحها وأحزانها. كانت تجلس في مكانها، تغني الذاكرة لها أغاني من الزمن البعيد، وكأنما نسي الزمن نفسه أن يعيدها إلى الواقع، أو أن العقل قد قرر أن يحبسها في تلك اللحظات البسيطة من حياتها.
عندما سألتها عن السياسة، نظرَت إليَّ نظرة غريبة، كأنما أصابها شيء من الصدمة، وقالت بتوجس: "السياسة؟ ما لي بها؟ أنا فقط كنت أعيش في عالمي الخاص". كانت في تلك اللحظات تُجسد فكرة الهروب التام من الواقع، وكلما تذكرت شيئًا من السياسة أو الحروب، كانت تصرف الحديث إلى ماضيها الطيب، حيث لا مكان للآلام أو الجروح التي تركتها الأحداث الكبرى في حياتها.
"هل كان هناك من التفجيرات والجرائم التي نسمع عنها اليوم؟"، سألتها.
أجابت بنفس الرقة والدهشة، وكأنما الدنيا قد اختارت لها عينًا واحدة فقط ترى من خلالها الواقع: "هل يحدث هذا الآن؟! لا... لم نرَ شيئًا مما ترى."
الصمت عمّ المكان بعد هذه الإجابة. كنت أريد أن أسألها أكثر، أريد أن أغوص في ذاكرتها لعلي أكتشف تفاصيل أخرى من حياتها، لكن شيء ما في عينيها، شيء ما في قلبها، كان يدفعني للابتعاد. كان يتوجب عليّ أن أتركها تستمر في عالمها الخاص، حيث يتوقف الزمن ويبدأ الجمال.
وفي تلك اللحظة، رأيت شيئًا آخر. شيء فاجأني وأدهشني في الوقت نفسه. لقد اختفت قطتها، تلك القطة الصغيرة التي كانت ترافقها كظلها، كرفيقة لها في أوقات الوحدة. شعرت بالحزن يغزو قلبها، وتغيرت ملامحها. لقد بدت وكأنها عادت إلى طفولتها، تبحث عن لعبتها المفقودة، وهي تسأل الجميع، بل وتبحث هنا وهناك في كل زاوية من المكان، وتصرخ باسم قطتها وكأنها طفل صغير يطلب لعبته.
هذه اللحظة جعلت قلبي يتوقف. كانت دموعها تتساقط بغزارة، وكانت تصرخ وكأنها عادت إلى زمن بعيد، إلى تلك الطفلة التي فقدت أشيائها وأحلامها. من خلال هذه اللحظة المأساوية، كنت أشعر أنني أعيش في عالمين؛ عالمها المليء بالحزن على فقدان قطة صغيرة، وعالمي الذي لا أستطيع أن أشرح فيه كيف أن هذه اللحظات المأساوية هي التي تصنع الإنسان.
لم أستطع أن أتحمل رؤيتها تبكي هكذا، فقد شعرت بكل شيء، كل شعور يعصف بها. قررت الخروج للبحث عن قطتها. وحينما خرجت، شعرت وكأنني أبحث عن أمل ضائع، عن شيء بسيط يعيد الأمل للحياة.
لكن العجيبة، وبما أن الله لا يترك عباده، أرسل لي القطة قبل أن أخرج تمامًا من الباب. كانت تقترب من الباب بهدوء، وكأنها كانت تشتاق لصاحبتها. وعندما رآتها العجوز، كان الأمر أشبه بمعجزة، بدت كما لو أنها استعادت جزءًا من شبابها.
الحظة التي حملت فيها قطتها بين ذراعيها كانت مليئة بالسلام، وكأنما سحر الزمن أعاد إليها قوتها. كانت تبتسم، وتداعب القطة بحب، وكأنها في الأربعين من عمرها، لا الثمانين. ولكن مع هذه اللحظة من الفرح، شعرت وكأنها قد أتمت حلقة كاملة في حياتها، حيث استرجعت ما فقدته في تلك اللحظة البسيطة.
وها هي العجوز، عادت إلى الحديث عن مدرستها، عن "التربية النساوية"، عن أحلامها التي لم تتحقق. كانت تلك اللحظة بمثابة حلقة جديدة في ذكرياتها، حلقة مليئة بالحب والحنين، والتي اختارت أن تظل محبوسة فيها. كأنما نسيَ عقلها كل شيء آخر، واحتفظ بتلك الأيام البسيطة التي كانت تجسد معنى الحياة.
وفي النهاية، لم أعد أريد أن أسألها عن حياتها أو عن تاريخها، فقد أدركت أن حياتها ليست مجموعة من الأحداث أو الحروب أو حتى انتصاراتها، بل هي مجموعة من اللحظات البسيطة التي عاشت فيها بسلام. فقد اختار الله لها أن تعيش في ذكرياتها السعيدة، وأن تكون تلك الذكريات هي ما يملأ حياتها.
وهكذا، بينما كنت أودعها في نهاية الزيارة، أدركت أنها كانت أكثر حكمة مني. لقد تعلمت منها أنه لا يجب أن نغرق في الحزن، لا يجب أن نعيش في الماضي أو في الألم. يمكننا أن نعيش في لحظاتنا السعيدة، وأن نختار أن نتذكر فقط ما يجعلنا سعداء.