في لحظة تبدو عادية كنت في زيارة لمريض في المستشفى. كان طريح الفراش في الطابق الخامس، والمصعد معطّل. لم يكن أمامي سوى صعود الدرج، خطوة بخطوة. مع بلوغي الطابق الثالث، استنزفتني أنفاسي وأرهقتني ركبتاي، فجلست لأستريح قليلًا. بدا المكان صاخبًا؛ أصوات أقدامٍ مسرعة وهمسات متوترة. فجأة، تداخلت الأصوات مع صيحة ممرضة تستدعي طبيبًا لحالة طارئة. دفعني الفضول لأتبعها.
تسارعت خطواتي وأنا أحاول التسلل وسط الزحام. كان الألم يعتصرني من كل جانب، ليس فقط من الجهد البدني، بل من شعور عميق بالخوف والترقب. ما الذي يجري هنا؟ هل هناك من يحتاج إلى مساعدة؟ أم أن شيئًا ما يفوق قدرتي على الفهم؟ وصلت إلى غرفة صغيرة بالكاد تتسع للأجهزة الطبية، تُسيطر عليها أنفاس ثقيلة وصوت متقطع لجهاز مراقبة القلب. كانت هناك فتاة شاحبة البشرة، رقيقة الملامح، تحمل في عينيها الزرقاوين بقايا حياة ترفض الرحيل. جسدها النحيل يشبه زهرة ذابلة، لكنها رغم ذلك بدت نقية، تحيط بها هالة من البراءة لم أستطع مقاومة الانجذاب إليها.
اقتربت منها بخطوات حذرة، لكن شعورًا عميقًا بالخجل شدني للخلف، شعرت وكأنني أدنس نقاءها بمجرد وقوفي هناك. انسحبت سريعًا، ولحقت بالممرضة في الممر. سألتها عن الفتاة، فأجابت بصوتٍ خافت يحمل حزنًا دفينًا:
"إنها شابة في مقتبل العمر. كانت تحب الحياة، لكن قلبها كُسر بخيانة من أقرب الناس إليها. صديقة خانت ثقتها واستحوذت على من أحبته. منذ ذلك الحين، صمتت روحها قبل لسانها، وأصبحت أسيرة الحزن حتى أوشكت على مفارقة الحياة."
شعرت بحزنٍ عميق يتسلل إلى قلبي، وكأنني لم أعد أستطيع التنفس. أدركت حينها أن الألم الذي يسكنها لم يكن مرضًا جسديًا، بل جرحًا أعمق. جرحًا سببه البشر.
عدت إلى الغرفة مجددًا ووقفت بجانب سريرها، كنت أبحث عن كلمات أواسيها بها، لكن الصمت كان سيد الموقف. فجأة، انتابني شعور بالذنب، وكأنني شريك في أوجاعها. سحبت الكرسي المتحرك الموجود بالغرفة ونقلتها إليه بحذر. تجاهلت الأجهزة الملتفة حولها ودفعتها نحو شرفة تطل على المدينة. كانت المدينة تغرق في ضوء الشمس الغارب، والسماء تحمل بين طياتها ظلالًا من الحزن والشوق.
وقفنا هناك، ورغم أنني كنت متوترةً، إلا أنني شعرت بأن هناك شيئًا غير مرئي يربطني بهذه الفتاة. تركت وجهها يستقبل ضوء النهار، وبدأت أتحدث. لم أختر كلمات عزاء أو شفقة، بل حدثتها عن الألم، عن الخيبات، وعن كيف تستمر الحياة رغم كل ذلك. لكن كلماتها كانت ثابتة في ذهنها، وكأنها حجر ضخم يسد في قلبها أي نافذة للنور.
لكنها لم تتجاوب. شعرت بالعجز، ثم فجأة خانتني دموعي. انهمرت وأنا أطلب منها أن تسامحني، رغم أنني لا أعرف ما إن كنت قد أخطأت بحقها أو بحق أحد يشبهها.
هنا، ولأول مرة، التفتت إليّ وقالت بصوتٍ بالكاد يُسمع: "لا ذنب لك فيما حدث."
"أنتِ تتحدثين!" صرخت بدهشة، فقد كانت حالتها لا توحي بأنها قادرة على التحدث. نظرت إليّ بهدوء وقالت: "لكني لا أزال أحتضر. قلبي يحتضر."
"لا، أنتِ بخير الآن!" حاولت طمأنتها، لكن كلماتها كانت أقوى:
"قلبي يحتضر من دنيا الظالم فيها سعيد والمظلوم تعيس. من عالمٍ يخون فيه الأحبة ويغدر الأقرباء. هذه ليست دنيا تستحق العيش."
صمتت قليلًا، ثم سألتني بهدوءٍ غريب:
"هل تعرف معنى دنيا؟"
أجبتها، رغم أن الكلمات أثقلتني :
"إنها أدنى. دنيئة، سيئة."
أشاحت بوجهها نحو الأفق وقالت:
"إذن دعني أرحل منها."
صمتُها استدعى صمتًا آخر في داخلي. فجأة، رأيتها كمرآة تعكس صورتي القديمة. صورتها أعادت إليّ ذكريات البراءة التي كانت تسكنني يومًا، التسامح الذي تخليت عنه، والقلب الذي كنت أملكه قبل أن أقتله بيدي تحت وطأة الخيبات.
أدركت شيئًا عميقًا في داخلي، شعرت أنني كنت أبحث عنها طوال حياتي. تلك الفتاة، التي لم تذق سوى الألم والخيانة، كانت مرآة لقلبي الذي فقد الأمل في كثير من الأحيان. وكأنها هي السبب في أنني استطعت أن أرى نفسي من جديد.
قلت لها بصوت متهدج: "لقد أحييتِ قلبي. منذ أن رأيتك، أدركت أنني يمكنني أن أعود. أن أسامح. أن أعيش مجددًا."
اقتربت منها واحتضنتها كما لو كنت أحتضن نفسي. شعرت بدفءٍ غريب وكأن الحياة تعود لروحي من خلالها. همست لي:
"لن أتركك."
ثم، في لحظة خاطفة، استيقظت. كان كل شيء مجرد حلم رأيته في منامي.
لكني أدركت شيئًا عظيمًا: تلك الفتاة لم تكن سوى نفسي التي كنت أبحث عنها. نفسي التي فقدتها وسط صخب الدنيا، لكنها عادت لتخبرني أنني ما زلت أملك فرصة للحياة. لم تكن الفتاة مجرد شخصٍ غريب في حلمٍ عابر، بل كانت انعكاسًا لحزني، لخيباتي، ولأوجاعي، وفي نفس الوقت كانت تذكيرًا لي بأنني لم أفتقد الأمل بعد.
عندما استيقظت، كانت الذكريات ما تزال عالقة في ذهني. لم أعد كما كنت، ولم يكن قلبي كما كان. فكل لحظة من تلك اللحظات كانت بمثابة درس لي في الصبر، في القوة، وفي القدرة على المضي قدمًا رغم الألم.
تركت الفتاة تبتعد عني، لكن لا شيء في الحياة يستطيع أن يأخذ مني الدروس التي تعلمتها. قد تكون الحياة مليئة بالأوجاع والخيبات، لكن ما كنت بحاجة إليه لم يكن إلا لحظة من الصمت العميق، لحظة من التأمل، لحظة من الحياة التي جعلتني أجد نفسي مرة أخرى.
من كتاب 📖 صيني ب 80 جنية