هنَّ كثيرات

ذات
المؤلف ذات
تاريخ النشر
آخر تحديث

في صباح بارد من أيام الشتاء، كانت الساعة تشير إلى الثامنة، وأنا أسير في طريقي المعتاد. فجأة، اقتربت مني فتاة صغيرة، لا تتجاوز العشر سنوات. كانت تحمل بيدها حقيبة صغيرة بها مناديل ورقية. نظرت إليَّ بعينين بريئتين وسألتني بهدوء: "هل تريدين مناديل؟" كانت كلماتها خفيفة، ولكنها حملت في طياتها شيء أعمق من مجرد بيع منتج.

في لحظة لم أكن أستوعبها تمامًا، ببساطة، قلت لها "لا"، وواصلت طريقي. لكنني لم أستطع أن أبتعد عن فكري. شعرت بشيء غريب، شيء كان يحاصرني، جعلني ألتفت إليها مرة أخرى. ولكن هذه المرة كان نظري موجهًا إلى قدميها، إلى ذلك الحذاء البسيط الذي كانت ترتديه دون أن تضع عليه جوارب. لم أكن أستطيع أن أفهم لماذا تركزت عيناي على قدميها بهذا الشكل، لكنني شعرت بشيء يضغط على قلبي. كان الجو باردًا، وأعرف أن الشوارع تكون قاسية على من لا يجدون ما يحميهم منها.

في تلك اللحظة، زالت عني كل مشاعر الاستهتار التي كنت قد شعرت بها في البداية. قررت أنني لن أترك الأمر هكذا، لن أترك تلك الفتاة الصغيرة بدون مساعدة. فكرت في شيء صغير أستطيع أن أقدمه، شيء يمكن أن يخفف عنها قليلاً، فقررت أنني بعد أن أوصل الأولاد إلى المدرسة، سأذهب لشراء فطور لها وأدفع لها بعض النقود كي تشتري جوارب. لكنني عندما عدت إلى المكان حيث رأيتها، لم أتمكن من العثور عليها. بحثت في كل مكان، نظرت في الشوارع، بين المارة، ولم أستطع أن أراها. شعرت بحزن عميق، بحالة من الندم التي اجتاحتني. لماذا لم أتصرف في اللحظة الأولى؟ لماذا لم أكن قد قررت مساعدتها عندما كانت بجانبي؟ شعرت بتأنيب الضمير، وقلت لنفسي إنني قد ضيعت فرصة لجبر خاطر إنسان، خاصة طفلة في هذا العمر.

مرت الساعات وكأنها ثقيلة على قلبي. كلما تذكرت تلك الفتاة، شعرت وكأنني قد تسببت في ظلمها. كيف يمكنني أن أعيش مع نفسي بعدما تركتها تمر بتلك المعاناة، بينما كان بإمكاني أن أساعدها؟ ولكن، هل كنت سأتذكرها لو لم تكن قد اقتربت مني بذلك الشكل؟ لماذا لم يطرق قلبي أن أفعل شيئًا في لحظتها؟ لماذا انتظرت حتى تبتعد، حتى تبتعد هي الأخرى عن حياتي كأنها كانت مجرد ذكرى عابرة في صباح بارد؟

في تلك اللحظة، شعرت بفراغ داخلي. كانت الحياة تعكس لي مرآة قاسية، تُظهر لي كل أخطائي وتقصيراتي. عندما شعرت بحزن الفتاة، كنت قد أصبت في لحظة ضعف، تلك اللحظة التي لا أعرف كيف أتعامل معها. شعرت وكأنني لست الوحيدة التي تتألم. أليس من حقي أن أكون قادرة على تغيير مصير الآخرين؟ أليس من واجبي أن أساعدهم حينما أستطيع؟

كان قلبي يشعر بالضيق، وكأن المسافة بيني وبين الفتاة أصبحت أكبر من مجرد خطوات بسيطة. شعرت أنني أخفقت في حقها. كيف يمكن للإنسان أن يعيش في مجتمع يكثر فيه الإهمال؟ كيف يمكن لأي منا أن يمر بمثل هذه اللحظات ويشعر بالراحة وهو يعلم أنه لم يقدم حتى القليل؟ ولم يكن الأمر مجرد مناديل تلك الفتاة، بل كان عن الإنسانية التي نقابلها يوميًا في شوارعنا.

كل هذه الأسئلة دارت في ذهني، لكنها لم تجد جوابًا. في تلك اللحظة، أدركت شيئًا هامًا، أن الحياة ليست دائمًا مجرد لحظات عابرة، بل هي سلسلة من الأحداث التي تترك أثرًا فينا. في بعض الأحيان، لا ننتبه لتفاصيل الحياة، ولكنها تبقى في ذاكرتنا على مدار السنين.

مع مرور الأيام، ما زلت أفكر في تلك الفتاة الصغيرة، في خطواتها البريئة التي كانت تمشي بها في الشارع، في تلك النظرة التي حملت معها كل معاني الفقر والحاجة. ربما لم أكن قد قدمت لها شيئًا في ذلك اليوم، ولكن في قلبي، نمت نبتة من العطف لم تكن موجودة قبلاً. تعلمت أن ليس كل شيء يأتي في الوقت الذي ننتظره. فربما كانت تلك اللحظة هي بداية لتغيير داخلي في نفسي.

بدأت أفكر بشكل مختلف عن العالم من حولي، وفهمت أن لكل شخص قصته، ولكل وجه حكاية. وتعلمت أن تقديم العطف والمساعدة لا يحتاج إلى وقت طويل للتفكير، بل هو فعل ينبع من داخلنا. كأننا نبحث عن فرصة لكي نصبح أفضل، لكي نساعد في بناء مجتمع أكثر إنسانية.

وفي اليوم التالي، وبعد أن انتهيت من إتمام أعمالي المعتادة، قررت أن أبحث عنها من جديد. لا أعرف إن كانت هي نفسها، ولكنني كنت على يقين أنها قد تكون هناك في مكان ما، في أحد الشوارع أو الزوايا المظلمة، قد تنتظر من يساعدها. وعندما وجدتها في نفس المكان، لم أتردد لحظة واحدة. اقتربت منها، وقدمت لها ما استطعت من مساعدة، وابتسمت في وجهها. كانت نظرتها مليئة بالدهشة، لكن في عينيها كان هناك شيء من الامتنان، شيء جعلني أشعر أنني قد فعلت الصواب أخيرًا.

في تلك اللحظة، شعرت أنني قد تخلصت من عبء ثقيل. ربما لم أستطع أن أغير حياتها بشكل جذري، ولكنني قدمت لها لحظة من الراحة، لحظة من الأمل في عالم ربما يكون قاسيًا في كثير من الأحيان.

لكنني كنت قد تعلمت درسًا لا يُنسى: أن الإنسان لا يجب أن ينتظر لحظة مثالية ليقوم بعمل الخير، لأن تلك اللحظات قد تمر وتذهب قبل أن ندرك قيمتها. والفرص التي نمنحها للآخرين قد تكون فرصة لإحداث تغيير عميق في حياتهم وحياتنا.

تعليقات

عدد التعليقات : 2