بعد عناء يوم طويل وصخب الحياة المتكرر، تأتي لحظات فارقة حين تختلي بروحك، تجلس في هدوء بعيدًا عن أعين البشر وضوضاء العالم، وتبدأ حوارًا خاصًا مع الله. حوار لا تُقيده كلمات ولا تعيقه مشاعر. هو حوار ينبض من أعماقك، من أصدق نقطة في روحك، حيث تجد نفسك على حقيقتها دون أقنعة أو حواجز. في تلك اللحظات التي تصمت فيها كل الأصوات من حولك، تبدأ أنت في سماع صوتك الداخلي بوضوح، الصوت الذي ربما طالما تجاهلته، لكنه في تلك اللحظة يصبح الصوت الأكثر صدقًا وصدقًا في قلبك.
"لماذا أنا هنا؟" هذا السؤال الذي يطاردنا في لحظات الضعف والقوة. ربما نعرف الإجابة في أعماقنا، لكننا نحتاج إلى أن نسأل الله ليذكرنا بها. وفي هذه اللحظات، يصبح السؤال أكثر من مجرد استفسار عن مغزى الحياة، بل هو رحلة بحث عن السلام الداخلي، عن القبول بحكمة الله في كل ما يحدث، عن فهم كيف تتناغم تجاربنا مع إرادته التي لا تتبدل. نبدأ حوارنا مع الله بالسؤال. أسأله عن حكمة أقداره، عن معنى الأوجاع التي تمر بي، وعن الطريق الذي أحتاج أن أسلكه كي أجد السكينة التي طالما بحثت عنها. السؤال هنا ليس مجرد استفسار عقلاني، بل هو صرخة من القلب، محملة بالألم والرجاء في آن واحد.
في حواري مع الله، أحيانًا لا أحتاج أن أقول شيئًا. أجد أن الصمت أبلغ من الكلمات. في تلك اللحظات، يكون الصمت هو اللغة الأسمى التي يمكنني من خلالها التعبير عن كل ما في داخلي. أترك قلبي يتحدث بلغة لا يفهمها أحد سوى خالقي. في الصمت، أشعر بالطمأنينة، وكأن الله يقول لي: "أنا معك، فلا تخف." الصمت هنا ليس غيابًا عن التواصل، بل هو الفضاء الذي يسكن فيه الحديث الأكثر صدقًا بين الروح وربها. في تلك اللحظات من السكون، أشعر أن الله قريبٌ جدًا، وأنه يراعي كل جزء من كياني، كل همسة في قلبي، وكل لحظة ضعف في روحي.
في لحظة ضعف، أبث لله ما يعجز لساني عن قوله أمام الآخرين. أشكو من أوجاع الروح وثقل الأيام. أبكي بين يديه دون خجل، وأشعر وكأن كل دمعة تُسقط عني جزءًا من الألم. لا أخجل من أن أظهر ضعفي أمامه، لأنني أعلم أن ضعفي هو نقطة قوتي عندما أكون بين يديه. مع كل دمعة تسقط، أشعر بأنني أقترب منه أكثر، كأنما الألم ينقلني إلى مرحلة جديدة من التقدير والتفهم لرحمة الله اللامحدودة. لكن حواري مع الله لا ينتهي بالشكوى فقط، بل ينتقل إلى الشكر. أشكره على النعم التي أغفل عنها في لحظات الهم. أجد نفسي أذكر تفاصيل صغيرة، مثل قدرة يدي على الكتابة، وصوت الطيور في الصباح، وحتى الهواء الذي أتنفسه. وفي تلك اللحظات، أشعر بعرفان عميق لنعمه التي لا تُعد ولا تُحصى.
أدعوه بكل ما أملك من رجاء، وأسلمه مخاوفي وأحلامي. أطلب منه القوة والصبر، وأطلب منه أن يُنير دربي ويثبت قدمي على الحق. أطلب منه أن يهديني إلى السبيل الذي يرضيه، وأن يجعل قلبي مليئًا بالسلام والطمأنينة. في نهاية الحوار، أشعر بالسلام. وكأن الله وضع يده على قلبي وقال: "اهدأ، فأنا أقرب إليك مما تتخيل." أعود إلى الحياة بنفس جديدة، بروح مطمئنة وقلب يملؤه اليقين أن الله معي، في كل خطوة وفي كل لحظة.
حواري مع الله ليس مجرد كلمات، بل هو رحلة روحية تعيد ترتيب فوضى داخلي. في كل مرة أخرج منها أقوى، أكثر قربًا من نفسي ومن خالقي، وأعمق يقينًا أنني ما دمت أتحدث مع الله، فأنا لست وحدي أبدًا. في هذا الحوار، أكتشف جزءًا جديدًا من ذاتي، وأقترب من الحقيقة التي تبحث عنها روحي. وها هو الله دائمًا هناك، مستمعًا ومجيبًا، لا يخذلنا أبدًا، بل يظل دائمًا حاضراً، يرشدنا في خطواتنا، يهدينا في دروب الحياة المظلمة، ويوجهنا نحو النور الذي لا ينطفئ.
هذا الحوار، رغم أنه يبدأ بالكلمات، إلا أنه في النهاية يكون اتصالًا غير محدود بين الروح وخالقها، اتصالٌ يتجاوز الفهم البشري، ويصعد بالأرواح إلى مستوى أعلى من الوعي والتقدير للحياة والوجود. فكلما تحدثت مع الله، أصبحت أكثر حكمة وأكثر صبرًا، وأكثر يقينًا أن كل شيء يحدث لسبب، وأن الله لا يغفل عن عباده أبدًا.