جلست على طرف السرير، تتأمل السكون الذي يملأ الغرفة. لم تكن تلك اللحظة هادئة كما تبدو؛ كانت تعج بالأسئلة التي لا تهدأ، بالتفاصيل التي تثقل روحها. منذ أن طلبت منه أن يبتعد، وهي تتأرجح بين مشاعرها. كانت تعلم في أعماقها أن هذا البُعد كان القرار الصائب، القرار الذي احتاجته روحها المتعبة، لكنها لم تكن تعلم أن هذه المسافة ستحمل معها صراعًا من نوع آخر.
لم يكن البُعد عنه سهلًا. على العكس، كل لحظة كانت تقضيها بعيدًا عنه كانت كأنها تمرر يدها على جرح مفتوح. لكنها في الوقت ذاته شعرت بشيء جديد، شعور بالعودة إلى ذاتها التي كانت قد ضاعت بين تفاصيله. لم تكن تدرك كم أعطت من نفسها حتى وجدت أنها أصبحت مجرد ظل يحوم حوله، بلا ملامح، بلا جوهر.
كان قرار البُعد خطوة نحو التعافي، نحو إعادة بناء ذاتها التي هُدمت على مدار سنوات من العطاء غير المتوازن. كانت تعتقد أن بإمكانها أن تعطي بلا حدود، لكنها أدركت بعد فوات الأوان أن الروح لا تستطيع أن تعطي من فراغ. الشخص يحتاج أن يملأ نفسه أولًا، أن يجد السلام في داخله قبل أن يقدمه للآخرين.
ولكن، كما كانت تحاول إعادة بناء روحها، كانت هناك أصوات أخرى تهمس في أعماقها، أصوات تحمل ملامح الواقع المادي الذي لم تستطع تجاوزه. لم تكن مشكلتها مع المال، لم تكن تطلب منه الغنى أو الهدايا الباهظة، بل كانت تطلب تلك التفاصيل الصغيرة التي تعني الكثير. أشياء بسيطة، كأن يلتزم بمواعيده، كأن يُظهر اهتمامًا حقيقيًا بما يعني لها. لكنها في كل مرة كانت تواجهه بتلك التفاصيل، كان يرد بصمتٍ لا يحتمل، وكأن حديثها مجرد رفاهية لا تستحق الانتباه.
في عالمها الداخلي، كانت تحاول أن توازن بين الروح والمادة، بين حاجتها للسلام الروحي وإلحاح الواقع المادي. لكن التوازن كان يبدو مستحيلًا، وكأنها تسير على حبل مشدود فوق هاوية. كانت تحاول أن تصنع لنفسها عالمًا تجد فيه السكينة، لكنها كانت تدرك أيضًا أن هذا العالم لا يمكن أن يكتمل دون تواصل حقيقي، دون أن تشعر بأنها ليست وحدها في هذه الرحلة.
في ليلة باردة، وبينما كانت تتأمل القمر من نافذتها، شعرت بيدها تتحرك نحو الهاتف. لم تكن تعرف ماذا ستقول، لكنها شعرت بحاجة ملحة للكلام، للتعبير عن كل ما يختلج داخلها. كتبت رسالة، ثم مسحتها. ثم كتبت أخرى، ومسحتها أيضًا. وأخيرًا، كتبت:
"أريد أن أسمع صوتك. لا أريد أن تبقى بيننا تلك الأحاديث الروحانية التي تروح وتجيء دون جسد. أحتاجك أن تكون هنا، أن نتحدث كأي شخصين في هذا العالم. أنا إنسانة أعيش في واقع مادي، وأحتاج أن أشعر بوجودك بشكل ملموس، كما كنت أحتاجك دائمًا. أريدنا أن نبدأ من جديد، ولكن هذه المرة، بشكل مختلف."
ضغطت زر الإرسال، ثم نظرت إلى القمر وكأنها تنتظر منه إجابة. كان صمته ثقيلاً لكنه لم يكن فارغًا؛ كان يحمل في طياته وعودًا بالسلام، إذا هي فقط استطاعت أن تواجه صراعها بين الروح والمادة.
مرت دقائق بدت كأنها ساعات، قبل أن يصل الرد. كان مختصرًا، لكنه كان كافيًا ليعيد شعلة صغيرة إلى روحها:
"سأتصل الآن."
ابتسمت، وأغمضت عينيها للحظة. لم تكن تعلم ما الذي سيأتي بعد ذلك، لكنها شعرت أنها قطعت أول خطوة في طريق طويل. طريق ستتعلم فيه أن السلام الحقيقي لا يأتي من اختيار الروح أو المادة، بل من إيجاد التوازن بينهما، مهما كان ذلك صعبًا.