أنا، كسائر البشر، أُمعن النظر في نصف الكوب الفارغ وأُغضّ الطرف عن النصف الممتلئ، أحيانًا بوعي، وأحيانًا دون وعي. أجدني أتذمَّر من تفاصيل صغيرة وتافهة، أُضخّمها إلى أن تتحوَّل في عيني إلى جبال من الهموم. أضيق ذرعًا بضجيج أطفالي، حتى بلغ بي الأمر أن أتجنَّب الأطفال عمومًا. أتمنَّى أشياء لا أملكها، وأتأمَّل في مستحيلات.
ومع كل ذلك، لم يساورني الخوف يومًا من الموت. لم تُروِّعني فكرة المرض، إذ كنت أؤمن بأنها حقائق لا مفرَّ منها، حتى تغيَّرت حياتي إلى الأبد مع قدوم صغيريَّ. حينها، تسلَّل إلى أعماقي شعورٌ غريب، شيءٌ غامض، مزيجٌ من الحب والخوف؛ حبٌّ يغمر قلبي، وخوفٌ يجثم على صدري كسحابة داكنة.
أصبح الموت فجأةً رعبًا محدقًا. لم أخشَ النهاية لأجلي، بل من أجلهم. كنت أخشى أن يُنتزع وجودي من حياتهم، فيُترَكون يتخبَّطون في عالمٍ خالٍ من الآمان، دون يدٍ حانية تمسح دموعهم أو صدرٍ يتَّسع لحكاياتهم الصغيرة.
ست سنواتٍ كاملة عشتها بين أحضان هذا الرعب. كل ليلةٍ أُغمض فيها عيني، يزورني سؤال واحد: ماذا سيحدث لهما بدوني؟ كنت أستحضر مشاهد غيابٍ موجعة؛ أيُّ وجه سيضيء حياتهما حين يطفئ الموت نوري؟
لكنّي كنت أُقنع نفسي بأن القلق لا يجدي، وبأن عليَّ أن أعيش قويَّةً، لأنهما يستمدَّان طاقتهما منِّي. حاولتُ، وبذلتُ، حتى جاء ذاك اليوم الذي قلب عالمي رأسًا على عقب.
قبل شهرين، لامستُ كتلة صغيرة تحت الإبط. لم تكن تؤلم، لكنها كانت كجرس إنذار دقَّ في رأسي بلا هوادة. بدأت أخشى الأسوأ. كيف سأحارب مرضًا خطيرًا وأنا بالكاد أتحمَّل فكرة المرض؟
لأول مرة، واجهتني الحياة بضعفي. شهران من الترقب والصمت. كنت أدعو الله بلا انقطاع، أنظر إلى أولادي وأرى مستقبلاً مؤلمًا يتملَّكني. كنت أقضي ليلي في بكاء ودعاء، وفي النهار أحاول طرد الأفكار المؤذية. تردَّدتُ كثيرًا في مواجهة الأمر، ولكن بعد جلسات طويلة مع نفسي وبعد نظرات أطفالي البريئة للحياة، قررت المواجهة. ولمَ لا؟ هناك الآلاف من المرضى تعافوا وعادوا لحياتهم بشكل طبيعي.
لكن بين الحين والآخر، وبين الفكرة والأخرى، يلامس الخوف قلبي، وتحزن روحي كلما نظرت في وجه الصغيرين.
وفي الليلة التي سبقت موعد الطبيبة، كانت ليلة قاسية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. رأيت في نفسي ضعفًا لم أره ولم أفكر فيه من قبل. كان جسدي يرتعش من شدة الخوف لا من البرد. لم أجد ملجأً سوى حضن أولادي. فكرت وقررت أن أكتب وصيتي. ذكرت فيها أن ابنتي أنثى فحافظوا عليها، أما ابني فهو ذكر فقوموه ليصبح رجلاً.
في اليوم التالي، دقَّت الساعة العاشرة صباحًا وكأن موعد تنفيذ حكم الإعدام قد حان. أصبحت خطواتي ثقيلة وارتجف جسدي خوفًا من المجهول. أعددت نفسي أخيرًا للذهاب في الموعد المحدد، وقررت أن أذهب سيرًا على الأقدام. ربما أرى في وجوه المارة من هم أسوأ وأضعف مني، وربما أرى في وجوههم ما يجعلني أحمد الله على حالي.
لم يكن الطريق إلى العيادة طويلًا، لكن قدميَّ كانتا تخوضان معركةً ثقيلة مع كل خطوة. عند الباب، تردَّدتُ، لكني دفعتُ نفسي إلى الداخل. نظرتُ إلى الطبيبة بعينين مرتعشتين، ورويتُ لها قصتي. شعرت وكأن قلبي معلق بخيط هش، ينتظر كلمة واحدة منها لتحطمه أو تُبقيه ينبض.
ثم حدث ما يشبه المعجزة. ابتسمت الطبيبة وقالت بصوت مطمئن:
"أنتِ بخير، لا تقلقي. ما تشعرين به ليس أكثر من تورم عابر."
انفجرت بالبكاء، لكن هذه المرة كانت دموع ارتياح. خرجت من العيادة وكأنني وُلدت من جديد. مشيت بلا وجهة، أتنفس الصعداء. شعرت أن الحياة منحتني فرصة أخرى، ليس لنفسي فقط، بل لأولادي أيضًا.
سرت في طريقي أفكر كيف سألتقي بأولادي، كيف سأحتضنهم. كنت أحدث الله: "أخبرني يا الله كيف أحمدك؟ أخبرني كيف أشكر فضلك على نعمة الحياة." لم أهتم بالطريق ولا بالسائرين حتى وجدت نفسي على مقربةٍ من شارع يعني لي الكثير، شارع به أعز إنسان.
لا أعلم كيف أتيت إلى هنا ولماذا ؟! ربما أرادت روحي أن تخبره بأني بخير، رغم أنه لم يسألني ولم يعرف ما يدور في حياتي، ورغم أنه حبٌّ لم أُصرِّح به يومًا.
توقفت للحظات، ثم ابتسمت، وبعدها عدتُ أدراجي. اخترت أن أعود للسير في طريقي مثلما اختار هو.
وفي تلك اللحظة، أدركت شيئًا أكبر: أن الحب الحقيقي ليس أن أبحث عمَّن يُحبني، بل أن أُبقي نفسي قويَّة لمن أحب، تلك هي الحياة.