سمية، تلك المرأة الريفية البسيطة، لم تُتح لها فرصة التعليم كحال الكثيرات في القرى. عاشت حياتها وسط شقاء دائم، من طفولتها بين جدران منزل أبيها العامل البسيط، إلى زواج مبكر لم يمنحها سوى المزيد من المعاناة. وبعد أن هجرها زوجها، تاركًا إياها تتحمل مسؤولية خمسة أطفال، لم يكن أمامها خيار سوى مواجهة أعباء الحياة وحدها، محاولةً توفير لقمة العيش وتعليم أطفالها لتجنب تكرار مصيرها.
في صباح شتوي بارد، جلست سمية على حصيرة مهترئة في بيتها الطيني الصغير، وأمامها خمسة وجوه صغيرة تنتظر إفطارًا لم يتوفر. عيناها تراقبان القدر الفارغ فوق الموقد، والنار التي تخفت تدريجيًا كأنها تعكس حالها.
سمعت سمية عن المساعدة الاجتماعية من جارتها:
"روحي الشؤون، هيدوكي 500 معاش تكافل وكرامة."
كلمة جارتها كانت كأنها شعاع أمل وسط ظلام حياتها. تخيلت نفسها تشتري دقيقًا وزيتًا وحليبًا لأطفالها، وربما بعض الملابس الشتوية المستعملة. لكنها كانت تدرك أن الطريق لن يكون سهلًا.
رحلة الأمل والإحباط
اضطرت سمية إلى استعارة جلباب نظيف من جارتها، فقد كان جلبابها الوحيد ممزقًا. خرجت حافية القدمين، تمشي في الطرق الموحلة لأكثر من ساعتين حتى تصل إلى موقف السيارات. لم تكن تملك أجرة المواصلات، فاستعطفت السائق الذي سمح لها بالركوب على مضض، لكنها شعرت بثقل الإهانة وهي تجلس بين الركاب الذين يرمقونها بنظرات مشفقة أحيانًا ومتعالية أحيانًا أخرى.
عند وصولها إلى مبنى الشؤون الاجتماعية، واجهت نظرات الناس التي تفحصت هيئتها الفقيرة بازدراء. انتظرت في طابور طويل، وهي تحمل طفلها الصغير الذي بكى طوال الوقت من البرد والجوع.
دخلت مبنى الشؤون الاجتماعية بخطوات بطيئة، تحمل بداخلها مزيجًا من الأمل والخوف. جلست في قاعة الانتظار المكتظة، وعيناها تتأملان وجوه الكثيرات مثلها، كل واحدة تحمل قصتها الخاصة وأحلامها المؤجلة. انتظرت بفارغ الصبر سماع اسمها يُنادى عليه. شعرت بسعادة حين تخيلت نفسها تتسلم المبلغ، وترى فيه بداية جديدة لها ولأطفالها.
عندما جاء دورها، قدمت أوراقها بيد مرتعشة، لكنها فوجئت برد الموظف:
"مافيش طابع دمغة."
ارتبكت للحظة، ثم قالت بصوت منخفض:
"معلش، أجيبه بعدين؟"
رد الموظف ببرود:
"النظام ماينفعش، لازم الطابع دلوقتي."
خرجت من المبنى تبحث عن بائع طوابع. لم تكن تملك المال الكافي، فاضطرت إلى بيع خاتم حديدي كانت ترتديه لتحصل على المال. عرضته للبيع ولم يشتره أحد. جلست تبكي بجوار حائط المبنى وما زال الرضيع يبكي. جاءها رجل مسن وضع في يدها بعض النقود وكيسًا من الطعام للصغير.
نظرت سمية في وجه الرجل بينما هو استدار وذهب في طريقه دون أن ينطق بكلمة.
عقبات أخرى
عادت إلى الموظف، لتواجه طلبًا آخر:
"إحنا محتاجين صورة بطاقة جوزك."
صُدمت سمية. حاولت الشرح أن زوجها هجرها منذ سنوات ولا تعرف طريقه، لكنها قوبلت ببرود الموظف:
"لازم الأوراق تكمل، غير كده ماينفعش. إنتِ عارفة القوانين."
خرجت من المكتب وهي تجر نفسها، تحس بثقل العالم فوق كتفيها. فكرت أن تبحث عن زوجها في المدينة المجاورة، لكن كيف؟ هي لا تملك عنوانه ولا تعرف أحدًا يمكنه مساعدتها.
أمواج الانكسار
في طريقها إلى المنزل، كانت تفكر في بديل. لا يمكنها التوقف الآن؛ أطفالها في حاجة ماسة إليها. حاولت التواصل مع معارف مشتركين بينها وبين زوجها، لكنها لم تجد من يستطيع مساعدتها في الحصول على صورة بطاقته أو عنوانه. فقدت الأمل تمامًا، وأصبحت تحدث نفسها:
"منين أجيب لهم أكل؟ منين هدفع الإيجار؟"
عادت سمية إلى منزلها منهكة، لتجد أطفالها يبكون من الجوع. لم يتبق في كيس الطعام إلا القليل الذي لا يسد جوع أحدهم. فتحت خزانة الطعام، ووجدت حفنة دقيق بالكاد تكفي لصنع رغيف واحد. أعدته وقسمته بينهم، وهي تراقبهم يأكلون دون أن تذوق منه شيئًا.
زاد ضغط الحياة عليها، وأصبح صاحب البيت يهددها بالطرد إذا لم تدفع الإيجار المتأخر. حاولت التحدث إليه، لكنه كان حاسمًا:
"يا إما تدفعي، يا إما تمشي من هنا بعيالك. جايلي مستأجر جديد."
مرضت وبقيت مستلقية على فراشها، منهكة نفسيًا وجسديًا. ومع ذلك، كلما نظرت إلى صغارها تذكرت أن الحياة لابد أن تستمر، ولابد أن تقاوم أي ضعف تشعر به.
اللحظة الفاصلة
في لحظة انهيار، فكرت سمية أن تترك أطفالها أمام دار للأيتام، لكن نظراتهم البريئة جعلتها تتراجع. قررت ألا تستسلم، مهما كان الثمن.
وفي أحد الأيام، تسللت سمية إلى سوق المدينة، تجمع ما يتبقى من الخضروات التي يلقيها التجار، تأتي بها لتأكل منها وتطعم صغارها. ثم خطرت في رأسها فكرة بيعها، فبدأت تبيعها أمام منزلها. تحملت نظرات الجيران الساخرة وهمساتهم التي تشكك في كرامتها، لكنها لم تهتم. جمعت 20 جنيهًا في اليوم الأول. فكرت لو أنها تستطيع أن تجمع المزيد لتدفع إيجار البيت.
قررت أن تطلب من جيرانها عمل "جمعية شهرية". رغم حرجها من طلب المساعدة، عرضت على جاراتها فكرة جمع مبلغ خمسين جنيهًا شهريًا، على أن تكون هي أول من يحصل على 500 جنيه في الشهر الأول. لاقت الفكرة قبولًا بين الجارات، واستلمت سمية المبلغ مع نهاية الشهر.
أمل مستعاد
استخدمت المال لشراء الخضروات والجرجير، وبدأت تبيعها أمام منزلها. لم تكن تخجل من العمل، بل كانت ترى فيه وسيلة لإعادة بناء حياتها. بدأ الجيران يشترون منها، وشعرت ببعض الاستقرار يعود تدريجيًا إلى حياتها.
بعد شهور من الكفاح، استطاعت إكمال الأوراق اللازمة، واستلمت أخيرًا الـ500 جنيه. لكنها حين حصلت عليها، أدركت أن المال وحده لا يكفي، بل كانت بحاجة إلى قوتها وصبرها لتستمر.
وفي كل يوم كانت تنظر إلى أطفالها، وترى في أعينهم نظرة شبع وقناعة. أدركت أنها تعلمت من التجربة أن الإرادة قادرة على صنع المعجزات، وأن الأمل قد ينبع من أبسط الأمور.
كانت تحمد الله كلما نظرت إلى أطفالها وهم ينامون بهدوء لأول مرة منذ فترة طويلة. عرفت سمية أن الرحلة تكمن في البحث عن كرامتها وقوتها واستقلالها.