بضعة أيام على موعد الزفاف… لقد اقتربت اللحظة التي ستجمعني بمن أحبني بصدق، ومن استحق أن يملك قلبي.
أرى الدنيا بجمال لم يسبق لي أن رأيته من قبل… انتهت الدموع، وصرت أبتسم للحياة… كل شيء تغيَّر؛ فالشمس أصبحت تضحك حين تشرق، فتضيء العالم، والناس أصبحوا أجمل، أراهم يبتسمون برقة كلٌّ في وجه الآخر، حتى الطرقات باتت أكثر نعومة… أشعر وكأنني أطير في سمائها! أحببت كل شيء حولي… يا إلهي، ما أجمل الكون حين يكون الحب! لقد أحببت الدنيا بأكملها، وأحببت أن أجول في طرقاتها لأحييها على جمالها.
ساقتني قدماي إلى أحد الشوارع التي اعتدت أن أمشي فيها… إنها الشوارع التي طالما رأيتها حزينة من قبل، فاخترت أن أمنحها نفحةً من سعادتي لتبتسم كما أبتسم… أرى الآن وجهها يختلف تمامًا، كما لو أن المدينة كلها أعادت تشكيل نفسها من جديد، أضواء الشوارع أصبحت أكثر إشراقًا، والهواء أطيب.
لم تكن أي مشاعر أخرى تعني لي شيئًا أكثر من أنني أعيش اللحظة بحب وسلام داخلي. وأثناء تجوالي، رأيتُ عن بُعدٍ كهلًا جالسًا على أحد الأرصفة، تبدو عليه علامات الفقر، يطلب الصدقة. تقدَّمتُ نحوه، ورأيته عن قرب… كانت ملامحه مختفية خلف تجاعيد الجوع والفقر التي تملأ وجهه… أحسست بشعور غريب لم أفهمه! تمعنتُ في وجه العجوز، ثم فجأة، توقف قلبي عن الخفقان حين عرفته. نعم، إنه هو! يرتدي جلبابًا ممزقًا، يمد يده للمارة، يستعطفهم. هناك من عطف عليه وأعطاه القليل، بينما سار الآخرون كأنهم لم يروا شيئًا.
لم أصدق عينيَّ حين رأيته يتسول! لم أكن أحب ما أرى، لا أستطيع التعود على رؤية الناس في هذا الوضع، خاصةً عندما يكون مَن كان بيننا ودٌّ. كنت قد تعودت أن أراه في أفضل حالاته، رافعًا رأسه، فخورًا بنفسه، لا يطلب شيئًا من أحد. ابتعدت قليلًا متسائلة: كيف له أن يصل إلى هذا الحال؟ كيف أصبح بهذه الصورة المُذلَّة؟ كيف تبدل حاله بهذه السرعة؟ وما الذي دفعه إلى التوسل؟
ولماذا يتسول؟! لقد كان غنيًا… ما الذي دفعه إلى أن يمد يده للغرباء؟!
أتته فتاةٌ جميلة، وضعت في يده قليلًا من الرحمة، ثم قالت: "خذها… أنت لا تستحق أكثر من ذلك!" ثم مضت… تعجبتُ من طريقتها، وانفعلتُ بشدة مما أراه… لا! هذا لم يكن طبع رجلٍ أحببته! لقد كان عفيف النفس، لا يسمح بالإهانة… فما الذي حدث له؟!
عدتُ مرةً أخرى واقتربت منه وسألته:
— لماذا تتسول؟! لا أطيق أن أراك في هذه الحالة… كُفَّ عن التوسل والتذلل، أرجوك!
لم يُجبني… لم يُسمعني صوته… بل اكتفى بأن نظر إليّ نظرة فارغة، وكأنه لا يعرفني. كانت عيناه غارقتين في الحزن، مثل مَن فقد كل شيء في لحظة.
بحثتُ في حقيبتي عن المال لأعطيه، على الأقل لأساعده بما أستطيع. شعرت أنني لا أستطيع أن أتركه في هذه الحالة. حتى لو كنتُ في حاجة إلى المال، فلن أتوانى عن مساعدته. بينما كنت أبحث في حقيبتي عن نقود، تقدمتُ خطوة نحوه، نظرتُ في عينيه، وتفاجأتُ… كان يبدو وكأن وجهه قد تغير، كان مليئًا بالتجاعيد التي حفرها الفقر في ملامحه، لكنه في الوقت نفسه كان يحمل شيئًا من الطيبة التي عرفتها فيه.
أخرجتُ من حقيبتي مالًا دون أن أهتم بعدِّه، فكل ما يهمني هو أن أجعله يقف على قدميه مرة أخرى دون أن يحتاج إلى صدقة من البشر. مددتُ يدي إليه بالمال… بدا ضعيف النظر، لم يكن يرى من يقف أمامه.
— تفضل! قلتها له، لكنه لم يرفع عينيه مطلقًا… أشفقْتُ عليه كثيرًا… ألهذه الدرجة أصبح؟!
— تفضل! قلتها ثانيةً، ثم أمسكتُ بيده، ووضعت المال فيها، لكنه سحبها وقال:
— لا، يا حبيبتي…
لقد عرفني من صوتي! من أنفاسي المتلاحقة من شدة غضبي… عرفني بلمسة يدي حين أمسكتُ بيده لأضع المال فيها!
قال لي: "لا أريد… فأنا لا أتسول المال، لا أحتاجه… أنا أتسول الحب، والإخلاص، والرحمة… فهلَّا عُدتِ لتمنحيني إياها مرة أخرى؟"
— إنك تراني… تسمعني… ارفع رأسك نحوي وتحدث!
قال: "لم تُرفع لي قامةٌ ثانية… أصبحتُ فقيرًا ضعيفًا بدون الحب… فهلَّا تصدقتِ عليَّ؟"
وقفتُ أمامه، وصمتنا قليلًا، كانت العيون تراقبنا، وبعض المارة توقفوا، كما لو كانوا يراقبون دراما حياتية تنكشف أمامهم. حاولت أن أتمالك نفسي، ولكن الألم كان أكبر من أن أخفيه. لم أستطع أن أقول له شيئًا يواسيه أو يعيد إليه الأمل.
— عفوًا… أيها الفقير، لقد منحتُك من الحب والإخلاص ما يكفيك لتكون غنيًا مدى حياتك… منحتُك كنزًا أهملتَ فيه ولم تحافظ عليه، فبعثرتَه في كل اتجاه دون رحمة… منحتُك قلبي، ولم تكتفِ به…
لم يَبْقَ لك شيء لأمنحك إياه… فما زلتُ إلى هذه اللحظة أضمِّد جُرحًا قد أصبتَني به…
خذ من المال ما شئتَ، أما قلبي… فلا! فما تبقَّى فيه من الحب… ليس لك… إنه لحبيبٍ آخر.
وغادرته، وفي عيني دمعة حائرة. إن الحياة التي كانت بيننا قد أصبحت ذكرى، وقلبي أصبح فارغًا منه. ربما يومًا ما سيجد طريقه إلى نفسه، وسيجد السلام الذي يبحث عنه. أما أنا، فأنا هنا، أعيش حياة جديدة، بعيدًا عن كل تلك الذكريات التي أصبح يملؤها الحزن.
من كتاب 📖 صيني ب 80 جنية