هذا لن يخون

ذات
المؤلف ذات
تاريخ النشر
آخر تحديث

قبل أن تمسك "رنا" بالقلم، كانت تجلس في شرفتها الصغيرة، عيونها ضائعة في المسافة بين السماء والأرض. كانت تفكر في الأيام التي مضت، في اللحظات التي عاشتها معه، وفي الوقت الذي كانت تظن فيه أنه سيكون حاضرًا في حياتها دائمًا. كان أحيانًا يرسل لها رسائل دافئة، وأحيانًا أخرى يختفي تمامًا، لكنها كانت تبرر له غيابه، معتقدة أن هناك سببًا وجيهًا لذلك.

مرت الأيام، وكل يوم كانت تنتظر أن يعود إليها الصوت الذي كان يبدد صمتها، والحضور الذي كان يملأ حياتها بالفرح. ولكن في كل مرة كان يختار الغياب، ويدعها تنتظر وحدها. بدأت تشعر أن الحب أصبح عبئًا، وأنها كانت تركض وراء شيء لن يأتي أبدًا. ومع مرور الوقت، بدأت تسأل نفسها: "لماذا أظل أنتظر؟"

ثم جاء ذلك اليوم، الذي قررت فيه أن تنهي هذا الانتظار الذي أرهقها. جلست على السرير وأخذت نفسًا عميقًا. نظرها وقع على هاتفها، كما لو كان يذكرها بشيء مهم. "لن أسمح لنفسي بأن أظل عالقة في مكانٍ ليس لي."

فتحت تطبيق الواتساب، لكنها لم تجد ما كانت تأمل فيه، كالعادة. حتى الرسائل التي كانت تبدو حميمية من قبل أصبحت فارغة، خالية من أي معنى. كأن الكلمات لا تعني شيئًا عندما لا يكون الشخص الذي تكتب له موجودًا حقًا. فقررت أن تكتب له شيئًا هذه المرة، رسالة لا تعبر عن مشاعرها فحسب، بل عن قرارها.

الرسالة:

"لم أعد أحتاج إليك، ولم أعد أنتظر منك شيئًا. كنت يمكن أن تكون ملاذي حين تضيق الحياة، أن تكون الصوت الذي يبدد صمتي، والظل الذي يحميني من قسوة الأيام. ولكنك اخترت أن تكون غائبًا، حاضرًا فقط حينما يناسبك الظهور. وكأنني مجرد خيار يمكن تأجيله أو تجاوزه.

أنا لا أحتاج منك الآن أن تفسر غيابك، ولا أن تقدم أعذارك التي لا تنتهي. اليوم، قررت أن أعيش من دونك. لن أطلب وجودك، ولن أنتظر رسائلك بعد الآن. فقط قررت أن أملأ الفراغ الذي تركته في حياتي بشيء آخر، بشيء لا يتلاشى ولا يتغير.

سأشتري كلبًا يؤنس وحدتي بدلًا منك. كائن صادق لا يعرف الخيانة، ولا يختبئ خلف أعذار واهية. كائن لا يحتاج إلى مبررات ليحب، ولا إلى تفسير ليكون حاضرًا. سيقفز فرحًا حين يراني، ولن يعاندني بالصمت. سيحمل لي حبًا غير مشروط، حبًا لا يتلون ولا يتغير، ولن يجعلني أتساءل عن نواياه.

الكلب لن يتهرب من الحديث حين أثقلته همومي، ولن يختفي حين أكون في أمس الحاجة إلى دعم. لن يتجاهل ندائي، ولن يجبرني على أن أخمن مشاعره أو نواياه. لن أضطر أن أعيش في انتظار تفسير صمته أو تبرير بروده. سأجد فيه ما كنت أبحث عنه فيك، ولن أحتاج إلى ترجمة صمته أو تفسير بروده.

ربما ترى في قراري رسالة تحدٍ. نعم، هذا صحيح. أنا أتحدى غيابك بأن أملأ فراغي بوجودٍ وفيّ، يثبت لي أن الحب يمكن أن يكون بسيطًا ونقيًا. قد لا تكون التفاصيل متشابهة، لكنه على الأقل لا يخيب أملي.

الفرق بينك وبين الكلب أنك اخترت الغياب، بينما هو اختار الحضور. أنت وضعتني على هامش أولوياتك، بينما هو سيضعني في قلب حياته. وبين الخيارين، قررت أن أختار نفسي، وأن أجد السعادة في مكان آخر، حتى وإن كان بسيطًا.

اليوم، ستصبح لحظاتي أكثر صدقًا. لا انتظار لرسائل لن تأتي، ولا مواعيد لن تتحقق. الكلب سيكون رفيقي في الطريق، وستبقى أنت مجرد ذكرى قديمة."

أغلقت "رنا" هاتفها ببطء، وأخذت نفسًا عميقًا. لم تشعر بأي ندم، بل كان شعورًا بالتحرر. لقد كان قرارًا صعبًا، لكنها كانت تعلم أنه هو الأفضل.

بعد ساعات قليلة، ذهبت إلى متجر الحيوانات الأليفة. كانت هناك طاقة مختلفة في خطواتها، كأنها اكتشفت جزءًا من نفسها كانت قد فقدته. دخلت المتجر، وفي الزاوية البعيدة، كان الكلب الذي اختارته. كان صغيرًا، بعينين تحملان براءة وسعادة، وكأنه كان ينتظرها لتأخذه معها.

"أريد هذا الكلب، من فضلك." قالت للمسؤول عن المحل، وكان صوتها يحمل في طياته شعورًا من السلام الداخلي، شيء لا يمكن تفسيره بالكلمات.

عادت إلى منزلها، ومعها الكلب الذي بدأ يلاحق خطواتها بحب بريء. في تلك اللحظة، علمت أن الحياة ستبدأ من جديد. لم تعد هناك حاجة لانتظار شيء لا يأتي. وفي تلك اللحظة، بدأت "رنا" في بناء حياتها من جديد، ولكن هذه المرة كانت هي أولى أولوياتها.

تعليقات

عدد التعليقات : 1